مدينة العميان

سلامة أحمد سلامة
سلامة أحمد سلامة

آخر تحديث: الأربعاء 23 يونيو 2010 - 10:48 ص بتوقيت القاهرة

 أكثر ما يؤرق المرء هو خفوت صوت الضمير بين جماعة المثقفين فى بلادنا. إذ نادرا ما تعلو فوق سطح الأحداث وصراع الأفكار نماذج من الكتاب والمفكرين الذين يوقظون وعى الإنسان ويغوصون فى أعماق المشكلات الإنسانية والاجتماعية التى ترهق كاهل المجتمعات الحديثة، دون اكتراث بجماعات المصالح وضغوط السياسة وثقل المواريث التقليدية.

ربما تكون هذه الحقبة التى أنجبت طه حسين ومحفوظ والحكيم وغيرهم قد انقضت وأجدب ما بعدها. فأصبح البحث عن رموز ساطعة أمرا صعب المنال.

خطر لى هذا الخاطر وأنا أقرأ قبل أيام عن رحيل الروائى البرتغالى العظيم خوزيه ساراماجو الحاصل على جائزة نوبل عام 1998. وقد عاش جانبا من حياته فى ظل ديكتاتورية طاغية لنظام حكم الديكتاتور البرتغالى سالازار. وأسهم بموهبته الروائية المذهلة فى الدفاع عن القضايا الاجتماعية والحريات، فى أوقات عصيبة لم تكن أمريكا ولا أوروبا تهتم كثيرا بالديمقراطية وحقوق الإنسان.

كان أول لقاء فكرى لى مع ساراماجو بعد حصوله على نوبل فى الآداب. عندما قرأت له رواية «مدينة العميان» فأذهلتنى أوجه الشبه مع واقعنا العربى. وقدرته الفذة على معالجة الواقع بأسلوب يمزج بين الخيال والرؤية الحسية والبعد التاريخى، أو ما يسميه أهل الأدب بالواقعية السحرية.

يطرح ساراماجو فى «مدينة العميان» من خلال سرد وقائع أشبه بالكوابيس رؤية فلسفية وأخلاقية تثير تساؤلات عن حقيقة الإنسان والوجود، ومعنى الخير والشر. وما تخفيه الحضارة الحديثة وراء واجهتها اللامعة من تناقضات. خضعت بالكامل لقوى الرأسمالية وقوانين العولمة.

يصف الكاتب فى مدينة العميان وهى مدينة بغير أسماء ولا شخصيات ولا أماكن.. ما يحدث عندما تتحلل عرى العلاقات الإنسانية فى المجتمعات الحديثة. فيصاب الإنسان بحالة من العمى النفسى.. يصبح أعمى بفعل عمى الآخرين. وينتقل العمى من شخص لآخر كما ينتقل المرض من الأجرب إلى الصحيح. وكلما زاد عدد العميان فى المجتمع كلما تفككت روابطه وفقد الفرد قدرته على المقاومة، وعلت لديه نوازع الأنانية وتخلى عن مبادئه وقيمه واحترامه للقانون.. وهكذا تنتشر فى المدينة حالة من فقد البصر المفاجئة.

ويصاب أهلها جميعا بالعمى، باستثناء امرأة واحدة هى التى حكت الوقائع.. ولكى تمنع الحكومة انتشار الوباء، يوضع المصابون بالعمى فى معتقل أو معزل. وهنا وفى جو الحصار والقهر يحدث فى مجتمع العميان كل ما يحدث فى مجتمعات العصر الحديث.. من ألوان القهر والغصب والخداع وانتهاك الأقوياء للضعفاء.

تخيل الكاتب ما يمكن أن يحدث فى مجتمع لا يرى الناس فيه بعضهم. بل يصبح الفرد مغلقا على ذاته غارقا فى أنانيته. وهو فى سبيل ذلك يرتكب أى جريمة فى صراع البقاء. ويفرض الموت منطقه على الجميع. وهكذا يصبح العمى عمى القلب والعقل قبل أن يكون عمى البصر كما تقول الآية الكريمة: «فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور».

لم يلتفت العالم العربى كثيرا إلى ساراماجو. ولكنه هو الذى التفت إلى المأساة الفلسطينية. وزار رام الله عام 2002، للتضامن مع الفلسطينيين تحت الحصار الإسرائيلى. وكتب ضد جماعات الضغط والمصالح الصهيونية وأعمال التنكيل والممارسات الوحشية ضد شعب أعزل. وشبه ما تفعله إسرائيل بأفران الغاز التى أقامها النازى لليهود.

وشأنه شأن كثير من كبار الكتاب، لجأ ساراماجو فى سنواته الأخيرة إلى المدونات. وفى بعضها انتقد دول الاتحاد الأوروبى ورئيس الوزراء البريطانى السابق تونى بلير بسبب مؤامرة الصمت الأوروبية على الفظائع الإسرائيلية.
عندما يخفت صوت الضمير الإنسانى، لا تبقى فى البرية غير أصداء ما كتبه أصحاب الضمائر الحية من المثقفين الذين دافعوا بكتبهم ورواياتهم عن الإنسان ضد الطغيان

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved