مصر والحرية النقابية

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: الأحد 23 يونيو 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

انشغل الرأى العام المصرى فى الأسبوع الثانى من شهر يونيو الحالى بمسألة وضع مصر على «القائمة السوداء» لمؤتمر العمل الدولى وبمناقشة عدم احترامها لالتزاماتها الدولية أمام إحدى لجان هذا المؤتمر، وهو التجمع السنوى الدولى للمعنيين بالعمل وشئونه فى الدول الأعضاء فى منظمة العمل الدولية، من حكومات إلى منظمات أصحاب العمل إلى منظمات العمال، أى نقاباتهم العمالية. أما الالتزامات المعنية التى لم تحترمها مصر فهى تلك المترتبة عليها باعتبارها طرفا فى اتفاقية العمل الدولية بشأن الحرية النقابية وحماية حق التنظيم، رقم 87 لسنة 1948. «القائمة السوداء» هى صورة مجازية، انتهاكات الدول الأعضاء لأحكام اتفاقيات العمل الدولية التى تحصيها لجنة مستقلة للخبراء سنويا عديدة، ولكن مجموعتى أصحاب الأعمال والعمال فى المنظمة تجتمعان قبل أسابيع من افتتاح المؤتمر الذى ينعقد كل شهر يونيو لتتفقا على قائمة بالحالات التى ستناقشها لجنة المؤتمر المعنية بتطبيق معايير العمل الدولية، وجرت العادة على أن تشمل القائمة حوالى الخمس والعشرين حالة. من معايير الاختيار أهمية الانتهاكات وخروجها على الأحكام الأساسية فى الاتفاقيات، وتكرارها، وطول فترة سريانها. وليس فى اختيار الحالات تحامل، ففى هذا العام مثلا، ناقشت لجنة المؤتمر المعنية بتطبيق المعايير حالتين بشأن نفس الاتفاقية رقم 87 من جمهورية الدومينيكان، البلد النامى، ومن كندا، وهى العضو فى مجموعة الدول الصناعية الثمانى الكبرى.

 

غير أن ما يميز مصر هو أن حالتها تناقش للمرة الثالثة خلال خمس سنوات. نوقشت الحالة فى سنة 2008، ثم فى سنة 2010، وهذا العام. الأحكام الأساسية فى الاتفاقية هى نصها على حرية العمال فى إنشاء النقابات، وحرية انضمامهم إليها من عدمه، وحرية النقابات فى إنشاء اتحادات نقابية وفى الانضمام إليها، سواء على المستوى الوطنى، أو الاقليمى، أو الدولى، بالإضافة إلى عدم تدخل الحكومات فى شئون النقابات، وحرية النقابات فى تحديد قواعد عملها وإدارة شئونها كافة. وهذه الأحكام لا تنطبق فقط على المنظمات الممثلة للعمال، بل هى تنطبق أيضا على المنظمات الممثلة لأصحاب العمل. باختصار، الانتهاكات الجوهرية التى تؤخذ على مصر هى أن قانون النقابات العمالية رقم 35 لسنة 1976 يخرج على الأحكام الأساسية للاتفاقية، حيث إنه ينص على تنظيم نقابى واحد ويحول دون التعددية النقابية، كما أن القانون يمكن المستويات النقابية الأعلى من التحكم فى المستويات الأدنى وفى قواعد عملها وفى إجراء انتخاباتها، كما أنه يمكِن الحكومة من التدخل فى الشئون المالية للنقابات.

 

●●●

 

لم يكن انتهاك مصر لأحكام الاتفاقية التى اختارت طوعا الانضمام إليها سنة 1957 قد نوقش لعقدين من الزمان قبل مناقشته فى سنة 2008. وضع مصر على «القائمة السوداء» لم يأت اعتباطا أو مصادفة. لقد كان نتيجة لنشاط الحركة النقابية المستقلة فى مصر فى العقد الأول من القرن الحادى والعشرين. هذه الحركة لم يعترف بها القانون ولكن عودها قوى واستطاعت أن تمارس حقوقها على أرض الواقع، ومن بينها حق التواصل مع التنظيمات النقابية الدولية، ومنها الاتحاد الدولى للنقابات الذى أثار حالة مصر، طالما أن الاتحاد «الرسمى» لنقابات عمال مصر كان تابعا للحكومة ويعمل فى إطار نظام سياسى السمة الأساسية فيه هى تقييد حق التنظيم، سواء اتخذ هذا الحق شكل النقابات العمالية، أو الأحزاب السياسية، أو منظمات المجتمع المدنى غير الحكومية. بعبارة أخرى، لم يكن غياب مصر عن «القوائم السوداء» لأنها كانت تحترم الحرية النقابية، بل لأن منظمات العمال الممثلة حقيقة لمصالحهم كانت غير موجودة أو ضعيفة، فلما قويت هذه المنظمات ظهرت مصر على القائمة بشكل متكرر.

 

فى مؤتمر العمل الدولى، ذكر وزير القوى العاملة والهجرة المصرى أن الدستور الصادر فى ديسمبر 2012 نص على الحق فى حرية التنظيم النقابى، كما أشار إلى أن حوارا اجتماعيا قد انعقد، اشترك فيه ممثلو أصحاب العمل والاتحادات النقابية، الرسمى منها والمستقلة، ومنظمات المجتمع المدنى، وأن أطراف الحوار قد اتفقوا على مشروع بقانون جديد للحريات النقابية، اعتمده مجلس الوزراء وأرسله إلى السلطة التشريعية الممثلة فى مجلس الشورى. مشاركة التنظيمات النقابية جميعها فى صياغة مشروع القانون شىء إيجابى لا ريب فيه، كما أن اشتراك ستة اتحادات نقابية فى الوفد النقابى الرسمى، وليس فقط الاتحاد «الرسمى»، وحديث عدد منها أمام لجنة المؤتمر، تقدم ينبغى الإشادة به. غير أنه يبقى أن قانون الحريات النقابية الجديد لم يصدر. المؤتمر أمهل الحكومة المصرية حتى نهاية العام لكى يصدر القانون الذى يضفى وضعا قانونيا على النقابات المستقلة وأنشطتها، وهى نقابات وأنشطة شرعية تماما، بمقتضى الاتفاقية الدولية ووفقا للدستور المصرى نفسه. كذلك طلب المؤتمر من الحكومة أن ترسل مشروع القانون إلى مكتب العمل الدولى لكى يفحص أحكامه ويعطيها المشورة بشأن ما إذا كانت الأحكام متفقة مع الالتزامات المترتبة على كل اتفاقيات العمل الدولية التى صدَقت عليها مصر. وطالب المؤتمر الحكومة، وحتى يصدر القانون، بأن تكفل حرية العمل النقابى كاملة للنقابات التى لا تتمتع بعد بوضع قانونى.

 

●●●

 

الانشغال بالحرية النقابية ليس كافيا فى المجتمع السياسى المصرى، وهذا شىء غريب من جانب أطراف هذا المجتمع، خاصة الأحزاب والائتلافات والجبهات السياسية. الحرية النقابية هى صنو لحرية التنظيم السياسى، وفى حرية المجتمع النقابى دعم لحرية المجتمع السياسى، وهما معا لصيقان بحرية المجتمع المدنى. الشواهد بشأن الإقرار بحرية المجتمع المدنى مؤسفة، ولذلك فهى لا تبشر خيرا بشأن حرية المجتمع النقابى، وتبرر تخوفات من تخوَف من أن يكون النشاط الواضح فى صياغة مشروع القانون الجديد مرتبطا بانعقاد مؤتمر العمل الدولى ومناقشته لحالة مصر، ومن أن تخمد الهمة بعد انتهاء المؤتمر. على أن خمود الهمة والرجوع فيما أقرَت به الحكومة سيكون خطأ كبيرا. إن الأحكام الخاصة بالحرية النقابية فى مشروع القانون وتمثيل كل النقابات فى مؤتمر العمل الدولى هى حقوق انتزعتها النقابات المستقلة والديمقراطية كلها بنشاطها بين العمال وبتمثيلها لمصالحهم. تيسير عمل النقابات وقانونيتها سيفتح القنوات التى تسمح بالتفاوض بشأن النزاعات العمالية وتسويتها. أما سدُ هذه القنوات من قبل أن تفتح فسيكون وبالا على علاقات العمل، وعلى النشاط الاقتصادى، وعلى الاقتصاد المصرى الذى لا يقوى على القيام من عثرته الممتدة.

 

 

 

أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved