قراءة سريعة فى مشروع الموازنة.. ملاحظات وأسئلة
زياد بهاء الدين
آخر تحديث:
الثلاثاء 23 يونيو 2015 - 10:25 ص
بتوقيت القاهرة
أخيرا، وبعد طول انتظار، أقر مجلس الوزراء منذ أيام مشروع الموازنة العامة للسنة المالية المقبلة وأرسله إلى رئيس الجمهورية لكى ينظر فى إصدارها أو تعديلها. وباختصار فإن مشروع الموازنة العامة المقدم من الحكومة يفترض أن إيرادات الدولة سوف ترتفع فى العام القادم بنسبة ٢٦٪ عن العام الحالى لتصل إلى ٦١٢ مليار جنيه، وأن المصروفات العامة سوف تزيد بنسبة ٢٠٪ لتصل إلى ٨٨٥ مليار جنيه، وأن الفارق بينهما ــ نحو ٢٧٣ مليار ــ هو العجز المتوقع خلال العام القادم والذى تستهدف الحكومة النزول به إلى أقل من ١٠٪ من الناتج المحلى الإجمالى، كما أنها تسعى لزيادة معدل النمو الاقتصادى إلى ٥٪، وهذه كلها أهداف طموح للغاية. وفى ضوء المعلومات المتاحة إعلاميا عن مشروع الموازنة، فسوف أكتفى هنا بإبداء بعض الملاحظات والأسئلة لعلها تساعد القارئ على تجاوز الأرقام والمليارات التى تحفل بها الموازنة دون أن يصاحبها شرح لطبيعة الاختيارات التى تنطوى عليها.
أولا: حرص الحكومة على النزول بالعجز إلى أقل من ١٠٪ يعنى إصرارها على التعامل بجدية مع الخلل الهيكلى فى الموازنة العامة. ولكن من جانب آخر فإن هذا الهدف الطموح يمكن أن تكون له آثار اجتماعية وخيمة على الطبقات الفقيرة إذا لم تحسن الحكومة اختيار أوجه الوفر فى الإنفاق. والمشكلة المزمنة التى تواجه كل حكومة أن ثلاثة بنود فقط فى الموازنة العامة ــ الأجور الحكومية، وخدمة الدين العام، والدعم ــ تستغرق نحو ٨٠٪ من إجمالى الإنفاق العام. فإذا أضفنا إلى ذلك أن خدمة الدين العام حتمية (إلا بنزول سعر الفائدة)، فإن مجال الحركة المتاح هو الأجور الحكومية والدعم. وهنا يلاحظ أن مشروع الموازنة لم يقترب من بند الأجور الحكومية بل ارتفع به بنسبة ١٤٪ عن العام الحالى بما يجعله يبتلع وحده ٢٦٪ من الإنفاق العام، وهذا أمر مثير للقلق لأن واجب الدولة فى الحفاظ على حقوق العاملين لا يتعارض مع ضرورة تطبيق سياسات لترشيد الأجور الحكومية والحد من التعيينات الجديدة. هذا ملف شائك ويجب التعامل معه بحكمة لأن استمرار الوضع الحالى يحرم باقى المجتمع من التوسع فى الإنفاق الاستثمارى أو الاجتماعى.
ثانيا: أما فى مجال دعم الطاقة فهناك غموض بحاجة للتبديد. حسب المنشور إعلاميا فإن تكلفة دعم الطاقة سوف تنخفض فى العام المقبل بنحو ثلاثين مليار جنيه (من مائة مليار إلى سبعين)، وأن هذا الوفر مصدره الانخفاض العالمى فى سعر المواد البترولية، وهذه فرصة جيدة لمصر. ولكن السؤال الذى يهم الناس هو ما إذا كانت الحكومة ستكتفى بهذا الوفر فى فاتورة الدعم الناتج عن انخفاض الأسعار العالمية أم ستكون هناك زيادة فى أسعار الغاز والبنزين والسولار. الوقت أزف والوضوح مطلوب فى هذا الأمر الذى يشغل الناس جميعا وقد صرنا على بعد أيام من بدء السنة المالية، خصوصا أن التأجيل المفاجئ للعمل بكارت الوقود ــ بعد ما تكبدته خزانة الدولة من مصاريف للإعداد لهذا النظام والدعاية له والتوعية بتبعاته ــ قد زاد من غموض الموقف.
ثالثا: وفى جانب الإنفاق أيضا فإن مشروع الموازنة العامة قد تم تقديمه باعتباره يحقق المزيد من العدالة الاجتماعية من خلال مئات المليارات التى يتم تخصيصها لمختلف بنود الإنفاق الاجتماعى، والتى يصل مجموعها إلى ٤٣١ مليار جنيه، أى نحو نصف جملة الإنفاق العام وبزيادة ١٢٪ على العام المالى الحالى وفقا لتقديرات وزارة المالية. ولكن عندى هنا ملاحظتان: الأولى أن زيادة الإنفاق الاجتماعى بنسبة ١٢٪، بينما الإنفاق العام عموما سوف يرتفع بنسبة ٢٠٪، تعنى فى الواقع أن هذا الإنفاق الاجتماعى يمثل نسبة متناقصة من الإنفاق العام وبالتالى فلا توجد زيادة نسبية بل انخفاض. أما الأمر الثانى فهو أننا بحاجة هنا للتفرقة بين نوعين من الإنفاق الاجتماعى، النوع الذى يستهدف الطبقات الأكثر فقرا ويصل لمستحقيه بناء على دراسات وآليات وبرامج حديثة (كما هو الحال مع المعاشات الضمانية الجديدة وبرامج «كرامة» و«تكافل» ودعم الخبز من خلال منظومة التوزيع الجديدة وبرامج الإسكان لمحدودى الدخل) والنوع الذى لا يستند إلى استهداف لمحدودى الدخل وبالتالى يستفيد منه الأغنياء قبل الفقراء (كما هو الحال مع التعليم والصحة والوقود). والمشكلة الحقيقية أن نسبة برامج الإنفاق الاجتماعى التى تعتمد على الاستهداف لا تزال ضئيلة مقارنة بحجم الإنفاق الاجتماعى عموما، بما يعنى استمرار تسرب الدعم لمن لا يستحقونه. لذلك فإن القضية ليست مجرد زيادة الإنفاق الاجتماعى، بل التوسع فى الدعم الذى يستند إلى استهداف الفقراء، وإلا كانت النتيجة المزيد من نزيف الموارد وتكريس الفجوة الاجتماعية بدلا من التضييق عليها.
رابعا: وفى مجال الإنفاق العام أيضا، غير واضح كيف يمكن أن تسعى الدولة لخفض عجز الموازنة، وكيف تستهلك ٨٠٪ من الإنفاق الإجمالى فى الدعم وخدمة الدين والأجور الحكومية، ثم يستمر الحديث عن مشروعات قومية عملاقة دون تحديد لمواردها وتكاليفها ومصادر تمويلها، ودون حتى بيان الجدوى الاقتصادية منها، بما يوحى بأن القرار السياسى بالمضى فى إطلاق هذه المشروعات العملاقة منبت الصِّلة بالموازنة العامة المقدمة من الحكومة.
خامسا: على أن اللغز الأكبر فى مشروع الموازنة هو ما يتعلق بزيادة موارد الدولة فى عام واحد بنسبة ٢٦٪، وهو افتراض يبدو صعب التحقيق فى ظل اتجاه الدولة لتجميد ضريبة الأرباح الرأسمالية على تعاملات البورصة، وخفض الضريبة العامة على الدخل من ٣٠٪ إلى ٢٢،٥٪، وفى ظل الغموض المحيط بالضريبة العقارية. فهل تكون ضريبة القيمة المضافة هى المصدر الرئيسى لهذه الزيادة فى الموارد؟ أم أن هناك نية للتوسع فى التصالح على الجرائم الاقتصادية؟ أم تفكير فى العودة لسياسة بيع أصول الدولة والشركات العامة؟ هذه الزيادة الكبيرة فى الموارد بحاجة إلى تفسير لأن كل الإجابات الممكنة تنطوى على اختيارات اجتماعية وسياسية يلزم أن يكون الناس على دراية بها وقابلين لها.
سادسا: وأخيرا فيما يتعلق بمعدل النمو الطموح الذى تستهدفه الحكومة (٥٪)، فإنه يفترض معدلات للاستثمار تتجاوز بكثير ما هو متاح من موارد الدولة، وهذا يعنى ضرورة الاعتماد على زيادة استثمارات القطاع الخاص من أجل سد الفجوة التمويلية بين متطلبات التنمية الاقتصادية وبين الموارد العامة المحدودة. ومن أجل تحقيق ذلك فإن الدولة عليها إعادة النظر فى سياساتها الاستثمارية، خصوصا بعد الاضطراب الذى أثاره صدور قانون الاستثمار دون دراسة ولا تفكير، والغموض المحيط بقوانين الضرائب الصادرة خلال العام الماضى، وكلاهما أثر بالسلب فى مصداقية الحكومة فى هذا الشأن وجعل المستثمرين الجادين يترددون فى اقتحام السوق المصرية لحين اتضاح الرؤية والمسار الاقتصادى.
ما أخشاه أن تكون الموازنة العامة للعام المالى القادم مجموعة من الأفكار المتناثرة وغير المرتبطة، وأن تكون محاولة لإرضاء كل الأذواق والأمزجة دون أن تعبر عن توجه اقتصادى محدد أو رؤية واضحة المعالم، لأن هذا الاضطراب والتناقض لن يطمئن المستثمرين ويجذبهم، كما أنه لن يرضى الفقراء وينصفهم. الموازنة لم تصدر بعد ولا تزال محل مراجعة رئيس الجمهورية، وما تحتاج إليه ليس مجرد تعديل فى رقم هنا أو هناك، بل تحديد لاتجاه البوصلة وللرؤية الاجتماعية التى تسعى لتحقيقها.