تاجر الماشية.. والبخل
ناجح إبراهيم
آخر تحديث:
الجمعة 23 يونيو 2023 - 8:15 م
بتوقيت القاهرة
• كان دوما يحضر لعيادتى بعد أن يتفاقم مرضه فألومه على الانتظار فلا يأبه بذلك، يحضر دوما فى نهاية عيادتى وبعد انصراف الممرضة ليقول دوما إنه فقير لا يملك من حطام الدنيا شيئا وبالتالى لا يدفع أجر الكشف أبدا.
• لا أهتم بذلك وأفحصه مثل غيره، فإذا بدأت كتابة الأدوية «الروشتة» استوقفنى بسؤالين متكررين: إذا كانت هذه الأدوية عندك فأعطها لى لأنه لا طاقة لى بشراء الأدوية، فأقول له: الطبيب يكون عنده من الروشتة عادة عينة أو اثنين على الأكثر، ولا يمكن أن يكون لديه كل أدوية المريض وإلا تحول لصيدلية.
• أمنحه ما عندى وأنصحه بشراء الباقى، فينتفض مذعورا: هذا العلاج، كم ثمنه؟ وهل هو رخيص أم غالٍ؟ فأجيبه اسأل الصيدلى وأشعر أنه يعيش كارثة لمجرد شرائه لعدة أدوية رخيصة جدا وفى متناول الجميع، لم يكمل يوما علاجه أبدا فهو يضن بماله عن شراء العلاج كله أو الاستمرار فيه.
• ظل كذلك حتى جاءنى بالأمس مع زوجته فى وجود السكرتيرة حاول الدخول مجانا فقالت له بعد أن نظرت إليه نظرة فاحصة: هذا من شأن الدكتور؟ هذه أول مرة يدفع فى حياته، يبدو أنه أحرج لوجود زوجته معه.
• هو شاب وسيم، يرتدى ملابس جميلة، فى شرخ الشباب، هذه أول مرة يحضر فى هذا الوقت ومعه زوجته.
• تحدثت وهو جالس أمامى تليفونيا مع تاجر أغنام لشراء الأضحية قفز فى الحديث قائلا: عندنا كل الأضاحى خراف وماعز وعجول، نحن نربى ونبيع ونتاجر فيها، والخراف بكذا وكذا، والأغنام بكذا وكذا، ذهلت من المفاجأة هل هذا ابن تاجر كبير للأغنام والماشية التى تجعل تجارها فى غنى ويسر، وإذا كان كذلك لماذا يبتذل نفسه طوال هذه السنوات.
• بعد أن تحدثنا سويا فى أمر وسعر ونوع الأضحية واستعداده أن يحضرها لى فورا فى العيادة، كرر نفس الأسئلة التى كان يسألها من قبل، بداية بطلب إرجاع الكشف ومنحه الأدوية وغيرها؟ والشكوى من ثمن الروشتة حتى قبل أن تكتب.
• استرجعت شريط ذكرياته معى وقلت فى نفسى: هل هذا تاجر الماشية الذى يتسول كل شىء ولا يريد أن يدفع مليما فى أى خدمة تقدم له؟ والآن سيحاسبنى على الخروف أو الجدى بأعلى أسعار السوق، وهو ووالده وأسرته من كبار مربى الماشية فى منطقة العيادة.
• تكرر ذلك معى مرارا وخاصة من السيدات، معظمهن يردن الكشف مجانا، ليس لفرد فى الأسرة ولكن لعدة أفراد، ولا يكتفين بذلك بل يطلبن العلاج أيضا.
• إحداهن كانت تحضر دوما للكشف على نفسها وأولادها الثلاثة مجانا بزعم أن زوجها فقير جدا «وعلى باب الله» وهى جملة مصرية شهيرة مقصودة للغموض فى أمر عمل الزوج، ثم تطلب العلاج لهم جميعا ثم تطلب علاجا للكحة لزوجها الذى لم يحضر رغم أن أمراض الصدر ليست تخصصى.
• وفى يوم من الأيام فوجئت بها تدفع ثمن الكشف وحدها ولا تطلب شيئا، استغربت لذلك ولكن الغموض زال حينما علمت أن زوجها معها ودفع الكشف وحده دون طلب من أحد، اكتشفت بعدها أنه يعطيها ثمن الكشف دوما، وهذا تكرر مع عدة زوجات.
• وكانت عندى مريضة تكشف على ابنها دائما وقلت لها بعد عدة أشهر أنه سليم تماما، وكانت لا تدفع أبدا وكان أجرى وقتها عشرين جنيها ولا أهتم بذلك، لم تصدقنى أن ابنها أصبح سليما معافى، قلت لها: ستجعل الأستاذ الدكتور فلان حكما فى هذا الأمر وهو أكبر وأشهر أستاذ فى هذا التخصص، خذى كتابى هذا هدية واذهبى به إلى المستشفى وسيفحص ابنك هناك مجانا، فلما رآها قال اذهبى به إلى العيادة، ذهبت للعيادة ودخلت بالكتاب والطفل، فأعطته الكتاب فقال لها اشكريه كثيرا بعد أن قرأ الإهداء، فلما حدثته فى أمر الطفل قاطعها آمرا أن تدفع الأجر فى الخارج، فدفعته صاغرة وكان قرابة ثلاثة أضعاف الكشف عندى، ثم قال باقتضاب لها بعد الفحص: ابنك سليم وكلام د/ ناجح صحيح.
• حكت لى كل ذلك وأنا أستغرب كيف أنها دفعت سريعا دون نقاش ولا مجادلات أو مناقشات.
• لقد خلصت من حياتى أن الزوج المدمن أو البخيل لا يصلح للعشرة الزوجية لأن الزوج قائد الأسرة والإدمان يدمر عقله ومشاعره وتصرفاته، والبخل يخل بصلاحياته للقيادة، ولذلك رفض الرسول ترشيح أحد الأشخاص للقيادة لعلة واحدة هى «البخل» قائلا: وهل هناك داء أدوى من البخل.
• لقد شاهدت عمليا أن البخل يخل بالمروءة ويدمر الكرامة الإنسانية ويحول الزوج إلى نسخة مبتذلة، والكرم يرفع هامات الرجال عالية، ويمسح العيوب، ويفرج الكربات ويزيل العداوات، ويحل الخلافات، سلام على الكرماء.