تراب الميري
غادة عبد العال
آخر تحديث:
الخميس 23 يوليه 2009 - 11:02 ص
بتوقيت القاهرة
عزيزى طالب الثانوية العامة المتجه للدخول فى دوامة التنسيق.. أرجوك ماتشغلش بالك بأمور تافهة زى موضوع المرحلة الأولى والمرحلة التانية.. لا يجيلك اكتئاب عشان مالحقتش طب القاهرة على نص درجة ولا انهيار عصبى عشان مش هاتطول ولا حتى هندسة أسيوط.. الحلم بالحاجات غير واقعى وغير مجدى ومش هيجيبلك غير وجع القلب.. خلينى أحكيلك تاريخ أحلام كل شاب مصرى من القرن الماضى وحتى الآن وانت تفهم أنا باكلمك عن إيه..
فى أوائل القرن الماضى كان حلم كل شاب يتلخص فى أن يصبح «موظف حكومة» يلبس البدلة والصديرى والطربوش الأحمر الذى يخفى تحته شعره اللميع بفضل نصف طن من الفازلين (المقابل التاريخى للجيل) ويقبل يدى «نينة» وهى تقف على الباب لتودعه وبيدها مبخره رافعة صوتها بقراءة المعوذتين لتقيه من شر من تسول له نفسه الدنيئة أن يحسده على مركزه الوظيفى المهم.. فى بداية السبعينيات أصبح أمل كل أب وأم هو أن يكون ابنهما واد فهلوى بيلعب بالبيضة والحجر يتاجر فى أى شىء وكل شىء حتى عيلته نفسها المهم يجيب القرش من بق الأسد فى الثمانينيات كان الحلم هو السفر للعمل فى دول الخليج أو إن الواحد يبقى صاحب شركة توظيف أموال تسرق فلوس من يعملون فى دول الخليج.. فى التسعينيات اختفى الأمل من أساسه وأصبح الجلوس على المقاهى هو سيد الموقف..
الآن فى بدايات القرن الجديد تكتمل الدائرة وتعود كلمة «موظف حكومة» لتكون ضمن قائمة أحلام أى عائلة مصرية لابنها الحبيب فالآن بعض الوظائف الحكومية تعتبر «أملة» خاصة فى قطاعات البترول والغاز والكهرباء والاتصالات التى تتعدى رواتب وظائفها حاجز الأرقام الثلاثية المدموغ بختم النسر لتنطلق إلى رحابة عالم الأربعة أرقام.. إيه مش عاجبك؟.. هو انت لاقى والا الموضوع بالساهل؟.. زمان كل ما كان على «فتحى أفندى» فعله هو الجلوس معززا مكرما فى بيته مرتديا بيجامته مغلقا أزرارها خانقا نفسه بالزر الأخير فى انتظار خطاب القوى العاملة.. أما الآن فعليك يا أستاذ «فوفو» اللجوء لأساليب أخرى للفوز بالوظيفة وتحقيق الحلم، لازم تشغل الـG وتفتح الـD وتشخشخ جيوب السيد الوالد وتشترى الوظيفة.. ولكل وظيفة تسعيره ومسئول يقبض تلك التسعيرة فى صورة أموال سائلة أو فى صورة ملابس بالجملة من مصنع زوجة السيد المسئول أو حلى ذهبيه من محل ابن السيد المسئول يشتريها والد سيادتك وينساها أو يدفع ضعف الثمن وبهذا يكون ضمن لك مستقبلك.. أمال بذمتك عايز تبقى إيه؟.. تاجر؟.. بيفلسوا ورجال الأعمال مافيش أكتر منهم فى سجن المزرعة..تسافر بره؟.. كل العقود دلوقتى محتاجة على الأقل ماجستير وانت طبعا مش بتاع مذاكرة وما هتصدق تخلص وهتقطع كتبك وتعملها مراكب وعصافير.. عايز تبقى دكتور أو صيدلى أو مهندس.. كله بيشحت دلوقتى اطمن.. الشىء الوحيد المضمون فى الزمن ده هو راتب الحكومة أول كل شهر لأن الحكومة مابتفلسش.. ليه على مر العصور يحلم المصريون ويلهثون فى السعى خلف الوظيفة الحكومية؟..
يمكن بحثا عن الاستقرار لانعدام الثقة فى مستقبل العمل فى القطاع الخاص حيث يمكن لشخص واحد أن يحدد استمرارك فى العمل من عدمه بينما إذا لمست قدميك عتبة المصلحة الحكومية لا يمكن هتخرج منها ولا بالطبل البلدى، وقد يكون السبب مجرد جين متأصل ماركة (صنع فى مصر) يجعل كل مصرى ينظر بهيبة لهذا الكائن الأسطورى المسمى بـ«موظف الحكومة» المتحكم بشكل أو بآخر فى مصائر الناس والذى يعتبر الشخص الوحيد المسموح له برفع صوته أمام الريس فى المناسبات ليطلب منه «المنحة» كل عام (وش كده) بدون وسطاء.. ما زال المصريون يحلمون ويصرون على التمرغ فى تراب الميرى الفارق الوحيد أن هذا التراب صار الآن يشترى بالذهب.