حول ظاهرة خالد سعيد

رشيد العناني
رشيد العناني

آخر تحديث: الجمعة 23 يوليه 2010 - 11:13 ص بتوقيت القاهرة

 من هو خالد سعيد؟ أنا لا أعرف، ولا أظن القارئ يعرف. ولا أظن أن الأقدار كانت تُعدّ خالد سعيد للدور الذى يلعبه الآن. نعرف طبعا أن خالد سعيد هو ذلك الشاب الذى يُزعم أنه قُتل على يد اثنين من رجال الشرطة على باب مقهى من مقاهى الإنترنت فى الإسكندرية.

ونعلم أن ثمة شبهة فى كونه روحا من الأرواح الضائعة على هامش الجرائم الطفيفة مثل سرقة تليفون محمول أو اقتناء نوع من المخدرات، فيما يزعم الشرطيان الخاضعان حاليا للتحقيق.

نعلم ذلك مما يُقال ويذاع ويُنشر، ولكنه ليس علم اليقين، وليس العلم الذى لا شك فيه ولا تضارب. هو علم مؤقت، قابل للتغيير والتعديل حسب ما تؤدى إليه التحقيقات والتقارير الطبية والمعملية، وعلى مقدار الثقة فى هذا كله، وفيما إذا وصل إلى القضاء، وما سوف يبت به القضاء.

إلا أن خالد سعيد المزعوم قتله على يد الشرطة عنده برنامج آخر، يعمل على تنفيذه بلا كلل من وراء حاجز الموت الذى التقاه على غير موعد فى صدر الشباب. ولكن دعونى أؤكد أولا على كلمة «المزعوم»، وهى عادة حميدة تعلمتها من الصحافة البريطانية، حيث لا يُشار أبدا إلى تهمة أو متهم فى قضية منظورة أمام المحققين أو أمام القضاء إلا بلفظة «المشكوك فيه» (suspect )أثناء التحقيقات، ثم بلفظة «المزعوم» (alleged)، كأن يُقال القاتل أو السارق «المزعوم» إذا ما وجهت إليه النيابة تهمة أدت إلى وقوفه أمام القضاء، وحتى صدور الحكم.

وقد يكون القاتل شوهد من قبل العشرات وهو يغمد السكين فى صدر ضحيته أو يطلق الرصاص عليها، ولكنه يبقى شهورا طويلة «قاتلا مزعوما»، وتبقى جريمته «قتلا مزعوما» فى كل إشارة إعلامية طالما القضية فى طور التحقيق أو المحاكمة، فلا يسقط عنصر «الزعم» أو «الشك» إلا بصدور حكم قضائى بالإدانة.

حينئذ فقط يصبح القاتل قاتلا، والسارق سارقا، والمغتصب مغتصبا، والمختلس مختلسا. فالمتهم برىء حتى يُدان قضائيا، وحقوقه محفوظة، وكرامته الشخصية مصانة، فلا يُشتم ويُلعن أبوه وأمه وأجداد جدوده فى كل لحظة من لحظات الاعتقال ومع كل سؤال من أسئلة التحقيق والاستجواب، والأهم من ذلك كله أن كرامة بدنه مصانة، فلا يُصفع ولا يُركل، ولا يُضرب، ولا يُلكم، ولا تُكسر أسنانه، وبطبيعة الحال لا يُقتل فى طور الاعتقال أو التحقيق!

بل إنه لا يُقتل حتى بعد الإدانة ــ إن أُدين ــ لأن عقوبة الإعدام ملغاة فى بريطانيا كما فى دول الاتحاد الأوروبى عموما. الأصل فى هذا كله هو احترام الفرد، واحترام الحقوق الإنسانية الأساسية، التى تمتد إلى المجرم وإلى المشكوك فى إجرامه، لا يُستثنى منها أحد.

فى ظل احترام القانون، وفى ظل النظم الديمقراطية التى تحترم حقوق الإنسان وتعتبرها شرعة مقدسة قداسة الدين، ليس هناك فئة أو فرد أو حالة أو وضع يُباح معه التخلى عن حقوق الإنسان أو استباحة كرامة الفرد. ليست الطوارئ مبررا.

ليس الإرهاب أو الخوف منه مبررا. ليس أمن الدولة مبررا. ليست المخدرات وحماية المجتمع منها أو من غيرها مبررا. فى غابة الوجود البشرى، أدرك الغربيون بعد تاريخ دموى حافل، وبعد حروب بلا حصر، واضطهاد دينى من فئات لأخرى، ومذاهب سياسية شمولية من فاشية إلى نازية إلى شيوعية سحقت الفرد وكرامته وحياته سحقا ــ أدركوا أن لا ملاذ للفرد والمجتمع والجنس البشرى عامة وسط نوازعنا الحيوانية الغابيّة إلا فى ظل سيادة القانون واحترام الفرد وحرية الفكر والقول والعقيدة فى ظل حكم ديمقراطى انتخابى.

دعونا إذن نصرّ على أن ما قام به الشرطيان ما هو إلا «زعما» حتى يبت القضاء فى الأمر. دعونا نحفظ على المشبوهين حقوقهما الإنسانية التى ــ إن صحّ ما فعلاه ــ فإنهما حرما منها خالد سعيد، واعتبرا كونه مطلوبا لحكم أو آخر أو مشكوكا فى سلوكه لسبب أو آخر جوازا لإهدار كرامته أولا ثم إهدار دمه فى النهاية.

استخدما فى البدء عنفا مفرطا وغير مبرر أفضى إلى الموت، ثم أعقب ذلك محاولة غليظة لإخفاء الحقائق والهروب من تبعات الجريمة المزعومة. هكذا تبدو الأمور من المتابعة الإعلامية، إلا أننا فى انتظار اليقين عن طريق التحقيقات النزيهة وحكم القضاء إن وصل الأمر إلى القضاء. وحتى يحدث ذلك فالشرطيان بريئان، وما يُنسب إليهما «زعم». هكذا تقضى مبادئ حقوق الإنسان، التى لا يجب أن يُستثنى منها أحد، حتى الجلادون الذين لا يكنّون لتلك المبادئ سوى الاحتقار.

نحن ننتظر والجلادان المزعومان ينتظران، والأجهزة القائمة من ورائهما تنتظر، إلا أن خالد سعيد، وقد تحرر من الزمن ومن قواعد اللعب فى عالمنا الأرضى ومجتمعنا البشرى، قرر ألا ينتظر. خالد سعيد، الروح الضائعة فى شوارع الإسكندرية، والذى إن صدقت المؤشرات لم يكن مستقبله ــ الذى حرمه جلادوه من الوصول إليه ــ واعدا باهرا، ليس مضطرا للانتظار، ولا هو يريد الانتظار.

وإنما راق له الدور الجديد. راقت له البطولة. راق له الفداء. راقت له الشهرة والتفات الإعلام. راق له أن مصر كلها تتحدث عنه وتكتب عنه. راق له أن أخباره تجول أرجاء العالم على صفحات الشبكة العنكبوتية التى صُرع أمام إحدى مقاهيها. راق له، هو الإسكندرانى المغمور المطارد، أن مفوضية الاتحاد الأوروبى تتحدث عنه وتثير قضيته مع الحكومة المصرية.

راق له أن الشوارع تفيض بمظاهرات تتغنى باسمه، وتحمل صوره، وتتذكر أربعينه. هو الذى لم تعطه الحياة فرصة، والذى كان يتخبط على عتبات الضياع، راق له أن يصبح رمزا، أن يصبح بؤرة لمشاعر طبقة، لتطلعات أمة، أمة تتوق للحرية. تتوق للديمقراطية. تتوق لحقوق الإنسان. أمة مستعد أبناؤها أن يتحملوا الفقر والتخلف وعسف العيش، وكل سيئة من سيئات الزمان، على أن يكونوا أحرارا فى الفكر والقول والعقيدة، وفى الفعل فى حدود القانون، محفوظى الكرامة، متحررين من الخوف من الاضطهاد، من الاعتقال، من التعذيب، ومن أن يحدث هذا كله فيمضى بغير مساءلة أو حساب.

فى هذه الأشواق المكبوتة، فى هذه المخاوف المؤرقة، فى وعى كل المواطنين بأن ما حدث لخالد سعيد يمكن أن يحدث لأى منهم ــ فى هذا كله وجد الشاب التعيس فرصته الذهبية، وها هو يغتنمها من على طاولة المشرحة، من حفرة قبره التى نُزع منها أكثر من مرة، ليحرك مشاعر أمة بأسرها. سئم خالد سعيد الواقع الممجوج وقرر أن يتحول إلى أسطورة. قرر أن ينضم إلى سعيد آخر، «سعيد مهران»، اللص ــ البطل فى رائعة نجيب محفوظ، «اللص والكلاب».
معا الآن، حيث لا حاجز بين الخيال والحقيقة، يهتفان بكلمات سعيد مهران: «إن من يقتلنى إنما يقتل الملايين. أنا الحلم والأمل وفدية الجبناء. وأنا المثل والعزاء والدمع الذى يفضح صاحبه...»

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved