الشعب يريد سياسة خارجية محترمة


علاء عبدالعزيز

آخر تحديث: السبت 23 يوليه 2011 - 10:33 ص بتوقيت القاهرة

 لم أفهم أبدا كيف تمتنع مصر الثورة عن الوقوف علنا إلى جانب الثورة الليبية الباسلة التى تناضل من أجل حق شعب شقيق فى تقرير مصيره فى مواجهة واحد من أشرس طغاة العصر الحديث؟ لم نر مسئولا مصريا واحدا يعبر عن تأييد ودعم الثورة المصرية لشقيقتها الليبية التى اندلعت بعد أربعة أيام فقط من سقوط مبارك (فى إشارة لا تخفى على لبيب)، حتى بعد أن دخلت الثورة الليبية شهرها السادس، ما زالت مصر الثورة تتردد حينا وتتلكأ أحيانا فى الاعتراف بالمجلس الوطنى الانتقالى كممثل شرعى للشعب الليبى، فما تفسير ذلك؟

المؤسف أنه ليس أسوأ من هذا الموقف إلا المسوغ الردىء الذى يساق لتبريره. يقولون إن فى ليبيا مئات الآلاف من المصريين الذين ستتعرض حياتهم وأرزاقهم للخطر لو أن مصر تجاسرت وأيدت الثورة الليبية، وللوهلة الأولى يبدو هذا المنطق سلوكا مسئولا من دولة تحرص على تأمين أرواح وفرص عمل مواطنيها بالخارج، على أن التفكير المتأنى يقودنا إلى استنتاجات مغايرة تماما.

●●●

فمن ناحية أولى، تشير حقائق الصراع الدائر فى ليبيا إلى أن المناطق الخاضعة لنفوذ الثوار باتت أكثر اتساعا من حجم الأراضى الواقعة تحت سيطرة نظام القذافى، وبحسب روايات متواترة لمصريين عائدين من ليبيا فإن الخريطة الديمغرافية الراهنة للعمالة المصرية فى ليبيا أصبحت تشير بوضوح إلى أن العدد الأكبر من تلك العمالة يقع فى مناطق سيطرة الثوار. إذا كان المنطق إذن هو المصلحة المصرية بمعناها الضيق المتمثل فى حماية المصريين فى الخارج، فإن البوابة الملكية لبلوغ تلك المصلحة هى التأييد الصريح للثوار، وهو ما لا تفعله مصر!!

زد على ذلك أن أى دارس مبتدئ للعلاقات الدولية يعلم علم اليقين أن الصراع الدائر فى ليبيا مآله المحتوم انتصار الثوار مهما طال أمد المواجهات المسلحة، معنى ذلك ــ مرة أخرى بحسابات المصلحة الضيقة ــ أن حماية مصالح العمالة المصرية فى ليبيا تحتم أن تراهن السياسة الخارجية المصرية على الحصان الرابح فى هذا الصراع، لأنه الكفيل بالحفاظ على معدلات استقدام العمالة المصرية فى ظل مرحلة إعادة البناء الهائلة التى ستشهدها ليبيا بعد سقوط القذافى. وهذا بالدقة هو الحصان الذى ترفض مصر الرهان عليه بإصرارها على الحفاظ على شعرة معاوية مع نظام العقيد المتداعى!

ولو أردت دليلا ثالثا على أن الموقف المصرى من الأزمة الليبية لا علاقة له بحماية المصريين بالخارج، فانظر الى اليمن وسوريا.. ففى كل منهما ثورة ديمقراطية حقيقية من دون عمالة مصرية كثيفة، فهل تجاسرت مصر وأعلنت تأييدا لا يقبل اللبس لحق هذين الشعبين فى تقرير مصيرهما فى مواجهة الطغيان؟ الحاصل أنها لم تفعل وساقت فى تبرير ذلك حججا جد سخيفة من قبيل عدم التدخل فى الشئون الداخلية والأهمية الاستراتيجية للاستقرار. معنى ذلك أن ثمة تفسيرا آخر لإحجام مصر «الثورة» عن تأييد ودعم الثورات العربية.
جدل المبادئ والمصالح:

فى العقدين اللذين أعقبا ثورة يوليو تبنت مصر سياسة خارجية تعلى بجلاء من شأن «المبادئ» بوصفها مدخلا أخلاقيا لتحقيق «المصالح»، وهكذا لم يكن التأييد والدعم المادى والمعنوى الذى قدمته مصر آنذاك للثورات وحركات التحرر العربية والأفريقية والآسيوية مسعى ضيق الأفق يرنو إلى توسعة ومد النفوذ المصرى فى تلك المناطق للاستقواء بها فى مواجهات وتوازنات إقليمية ودولية، بل كان هذا التأييد انتصارا لمبادئ واضحة آمنت بها ثورة يوليو وسعت الى تطبيقها ببصيرة مفادها أن تسخير الموارد للدفاع عن قضايا إنسانية كالحرية والاستقلال والعدالة والكرامة والمساواة لابد وأن يؤتى أكله فى خدمة المصالح المصرية على المديين المتوسط والطويل (انظر مثلا كيف تسابقت البلدان الأفريقية التى ساندت مصر نضالها من أجل الاستقلال فى قطع علاقاتها مع إسرائيل بعد حرب 1967 دون أن تطلب مصر ذلك).

وبغض النظر عن تقييم نجاحات وإخفاقات ثورة يوليو فى المجال الخارجى، فإن جوهر هذه النظرية يكمن فى أن صناعة السياسة الخارجية تمثل نوعا من الاستثمار، رأسماله المبادئ وعوائده المصالح، وكلما ازدادت قدرتك على زيادة رأس المال وتعززت فطنتك فى توظيفه، تراكمت واستدامت العوائد والأرباح سواء الداخلية (تعزيز الشرعية وتعبئة الموارد) أو الخارجية.

على أن النظام الحاكم فى مصر اختار قبل أربعة عقود أن يسلك منهجا مختلفا فى رسم السياسة الخارجية، منهج يتأسس على اعتبار أن الالتزام بالمبادئ يمثل نوعا من المثالية الساذجة، وأن الأجدى بالأمم المتحضرة أن تتحلى بالواقعية فتدلف مباشرة إلى مصالحها لعلها تصيب الفريسة فى كبدها، وبهذا المنطق الضيق منزوع المبادئ لم تر مصر بأسا فى إبرام صلح منفرد يقربها من العدو بقدر ما ينأى بها عن شقيقاتها العربيات، كما لم تجد بأسا فى نسيان محيطيها الأفريقى والآسيوى فى أجواء الوله بالعالم الأوروأطلسى الذى صار قبلة الواقعيين.

ولأن ثورة 25 يناير لم تمتد بعد للمؤسسات والأفراد وطرائق التفكير القائمة على صياغة السياسة الخارجية المصرية فإن مشكلة تلك السياسة أنها تتعامل مع ثورات الربيع العربى من خلال الأدوات البالية لتلك الواقعية المقيتة. تلك الأدوات التى تجعل صانع السياسة الخارجية المصرى ينظر إلى هذه الثورة العربية أو تلك فيطرح السؤال الغلط: أين المصالح المصرية فيما يجرى؟ وينسى السؤال الصحيح: ما هى المبادئ الهادية والمرشدة لمصر إزاء ما يجرى؟

●●●

من يريد لثورة يناير أن تبلغ أهدافها فعليه أن يعمل لتمكين الناس ــ عموم الناس ــ من صياغة مبادئ السياسة الخارجية لوطنهم ومراقبة التزام هذه السياسة بتلك المبادئ، عندئذ ستكون مصر عونا لكل ثورة تحرر وسندا لكل ثائر، وعندئذ سيكون حقا لها أن تحصد العائد نفوذا إقليميا ودوليا، وموارد لخططها التنموية، وتأكيدا لشرعية نظامها الديمقراطى الحاكم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved