نقطة نظام.. ومحاولة توصيف
حامد الجرف
آخر تحديث:
الإثنين 16 مايو 2022 - 8:07 م
بتوقيت القاهرة
استضافت إحدى القنوات الخاصة فى برنامجها الحوارى مساء 16 يوليو الجارى أربعة من كبار الكتاب لتحليل ما عساهم يرونه من تغيير وزارى وشيك وما يلتمسونه من آثاره، وبعد أن قارب المتحاورون بلوغ استخلاصاتهم النهائية، أجرى السيد اللواء قائد المنطقة المركزية العسكرية مداخلة على الهواء معهم ردا على تفصيلات ما قالوه. وبغض النظر عن كثير من حديث سيادته مما لا نتوقف عنده، فإن جانبا مهما يستأهل أن نوليه اهتماما ونرد عليه، وأعنى: رفضه لما قيل به بذات الجلسة من توصيف لعلاقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة بشعب مصر عقب ثورة يناير باعتبارها وكالة عنه، وإصرار سيادته على تكييفها بأنها شراكة له، فضلا عما ألقاه حديثه من ظلال قد تشى بفهم معين «لصورة» ما حدث منذ 25 يناير، والتى أحسبها حاكمة بطبيعتها لأى توجه كلى أو جزئى للمجلس الموقر، بما يستوجب كذلك التوقف عند نقطة نظام أراها ــ بتواضع المخلصين ــ مفتاحا لكل حوار، وبداية لأى مقاربة، وأساسا لأى قرار.
وأبدأ بالثانية، وأعنى: نقطة النظام، وحاصلها: أن ما جرى فى مصر منذ 25 يناير هو فى جوهره «ثورة شعبية» بالمعنى العلمى والمضمون التاريخى للمصطلح، فالثورة كانفجار سوسيولوجى هائل، هى الفعل التاريخى الذى يباشره شعب وطن ما بتولى طلائعه ونخبه وكتلته الرئيسية تغيير نظام حكمه بالقوة وخارج الأطر والآليات المحددة بالدستور، من نظام قائم لم يعد يفى بتطلعات ذلك الشعب، إلى جديد يسهم فى صياغة مستقبله على نحو ما يريد، وذلك عملا بالحق التأسيسى وفوق الدستورى وغير القابل للتصرف، لأى أمة، فى مقاومة الطغيان.
ونتيجة ذلك، بالحتم وبالضرورة، أن ثورة يناير تستهدف وبالأساس، اجتثاث النظام الاستبدادى القمعى السابق، وتأسيس نظام ديمقراطى وطنى جديد، له من النضج والتجذر ما يعصمه من الزلل ويقيه من محاولات الانقلاب عليه ويحميه من الانتكاس. ليكون قيامه شرطا وإطارا، لعمل وطنى خلاق ومتصل، بناء وتنمية، وعدلا وكرامة.
ولأن التحديد الصحيح لطبيعة 25 يناير والتعيين الدقيق لمحورى النتائج الحتمية له، يعدان ــ معا ــ مفتاحا حاكما لكل حوار ولأى قرار، فإن الحاجة تقوم للتذكير بهما والإشارة إليهما، كلما تداعت الأحداث أو انساقت الحوارات فى مسار مختلف، بحسبانهما نقطة نظام لتصحيح الحوار وإعادته لمنطقه، ولتصويب المواقف استعادة لقراءة المشهد الكلى لتتسق معه.
أما التحاور النظرى أو التصرف العملانى على الأرض، من خلفية أن ما حدث لا يعدو كونه هبَّة، أو انتفاضة، أو ردة فعل وقتية، أو أن ما رتبته من نتائج للآن كاف لتهدئة ما قادت إليه من دوافع، فلا يمكن أن يفضى لما يقصد منه ــ مع حسن الظن بأصحابه ونواياهم ــ وذلك بسبب ما راكمه النظام القمعى السابق من خطايا خلال النصف الثانى من عمره المديد وتحديدا منذ الانكشاف المفضوح لمؤامرة اغتيال روح النظام الجمهورى واستلاب جوهره، فيما ورد بخطاب المساعى المشكورة الشهير، وما أعقبه من تعديل للمادة 76 وما تلى ذلك حتى يناير، وهو ما راكم بدوره، وبمتوالية هندسية تفوقه حجما وأثرا، مشاعر الغضب الوطنى النبيل حتى انفجر مرجله الملتهب فكانت الثورة.
ولا تزال الكتلة الحرجة لمكبوت ذلك الغضب على حالها، لم ينخفض معدلها، ولم يتراجع حجمها، ولم تهدأ نيرانها. بل إن العكس هو الصحيح، مع التباطؤ فى اجتثاث القديم وتطهير البلاد منه، والتباطؤ فى التأسيس للجديد من بعده. وأذكر هنا فقط بأن التعاطى الخلاق باقتلاع جذور القديم لم يكن طيلة الأشهر المنقضية إلا أثرا مباشرا لجهد شعبوى وبأحكام قضائية، هكذا كان الحال فى الحل القضائى لحزب النظام القديم وتشكيلاته، وللإدارة المحلية ومجالسها، وهو ما لم يعقبه أى عمل تنظيمى وتنفيذى على الأرض يباعد ما بين عناصر النظام القديم وأدوات التأثير الجماهيرى، والتى لا تزال فاعلة وبهمة وعلى جميع الأصعدة.
ولسوف يظل مكبوتا ذلك الغضب هو الضامن الوحيد لاستمرار الثورة حتى بلوغ غايتها، وهو ما لا ينبغى على حصيف أن يسقطه من حساباته وإلا كان مغامرا لا يقدر لقدمه موضعها.
●●●
وأما عن الأولى المرجأة، وأعنى: توصيف علاقة المجلس الأعلى بالشعب عقب الثورة، أو بالثورة ذاتها كفعل تاريخى للشعب، ورفضه لاعتبارها وكالة عنه، وتأكيده على كونها شراكة له، بما يفضى إليه التكييف، وما يشير إليه، فليسمح لى سيادته بإبداء ما يلى من ملاحظات:
إن الإعلان الدستورى القائم ــ ومن قبله الدستور السابق ــ قد حسم التكييف الدستورى والقانونى والسياسى ــ من قبلهما ــ لتلك العلاقة، بقوله: إن القوات المسلحة «ملك» للشعب. وعلاقة المِلك هذه، تنفى تصور الشراكة، والتى لا تقوم إلا بين كيانات منفصلة عن بعضها، ومستقلة بذاتها، وندية فى علاقتها، من المنظور القانونى على الأقل.
إن علاقة المِلك وإن أمكن تصورها كأمر طبيعى فى صلة شخص محدد بشىء ما، باعتبارها علاقة «عينية» ومرتبة لآثار من ذات الطبيعة، بما يمكن تصوره فى علاقة الشعب بالسلاح مثلا، فإن وصف علاقة الشعب «بالقوات» بناء عليها قد يكون مستغربا، فالقوات بطبيعتها تعبير عن منظومة «الرجال والسلاح معا»، ولكن ذلك الاستغراب يزول ويرتفع ظنه، ولا يفضى تصريحا أو تلميحا لأى إقلال لقدر معلوم، أو تجاوز لقيمة محفوظة، إذا ما استحضرنا مأثور تراثنا الدينى من جهة، وبلاغيات لغتنا من جهة ثانية، واستجلينا شخص المالك وما يملك من جهة ثالثة. فالقول بأن القوات «مِلك» للشعب يعنى رفعة لمقامها لا العكس، وتقديرا للمهام الوطنية المنوطة بها لا العكس، واعتبارها جزءا عضويا لا ينفصم عنه لا العكس، وذلك طالما انطلقنا من أن الشعب هو صاحب السيادة الأصيل، وأنه لا سيد على أرضه سواه.
إن تصور العلاقة فى إطار الشراكة لا الوكالة، لا يمكن أن يصح إلا مع التسليم بنظرية «شركة الشخص الواحد» أو قياسا عليها فى النطاقين السياسى والدستورى، فإن قيل بها أو قيس عليها، فإن الأمر سيفضى نظريا لذات ما قلنا به، لأن مالك شركة الشخص الواحد، سيبقى دون غيره، هو صاحب الإرادة، ومتخذ القرار، بما يجعل من الشركة فى النهاية مجرد أداة عضوية له فى أداء وظيفة بعينها، وليست تعبيرا عن تعدد أطراف أو تساويهم أو نديتهم.
ولذلك فإن الصياغة الدستورية القائمة، والتى نراها محكمة ودقيقة، والتى عبرت عن علاقة الشعب بقواته المسلحة بأنها من قبيل المِلك، بحسبانها أداة الشعب فى حيازة السلاح وفى الذود عن الوطن، تعد هى المحددة لطبيعة تلك العلاقة ونتائجها بما لا يستقيم معه تصور الشراكة بينهما.
فإن بقى الظن بأن القوات المسلحة شريك للشعب فى الثورة، فينبغى أن يُفهم الأمر على نحو صحيح من حيث الفلسفة السياسية، فالقول بأن الشعب هو صاحب الثورة، وأن الثورة هى صنيعة الشعب وفعله التاريخى وحده، لا ينفى عن كل أصحاب المساهمات النضالية السابقة والمتزامنة واللاحقة على يناير، بل وحتى أصحاب النوايا الوطنية المبشرة بالثورة والمؤيدة لها داخل الوطن وخارجه، ممن حُرموا شرف الخروج لها، هم أيضا شركاء فيها.
وعلى ذلك، فكلنا شركاء ــ بذلك المفهوم ــ فى الثورة، طالما أردناها وسعينا لها سعيها، وآمنا بحتميتها، ولم تتلوث أيادينا من قبلها بالمشاركة فى مؤامرة اختطاف مصر وإفساد حياتها وتأزيم مسارها وتلغيمه، لأن الثورة ومن منظور سوسيولوجى، تعد نشاطا إنسانيا ملحميا بامتياز، تحتشد فيها صور وتجليات وأفعال لحركة جموع وآحاد الجماعة الوطنية بأسرها، كنموذج إنسانى فارق للانعتاق مما قبلها، ولذلك فلابد بطبيعتها أن تحوى من البطولات والوعى بالزمن وبالضرورة وبحركة التاريخ، بذات قدر ما تتحمل أثقاله من نقائص وأكاذيب وادعاءات واهتبال فرص. فهى نشاط ملحمى جماعى خارق للعادة، قاطع للسكون، محرك للركود، دافع لحركة الجماعة الوطنية إلى الأمام.
فإذا اتفقنا على ذلك كله، وحررنا مفهوم الشراكة مما قد يلتبس به، وفهمناه فى إطاره الفلسفى الاجتماعى والسياسى الصحيح، ووافقنا من تمسك به تشخيصا وتوصيفا للعلاقة بين الشعب وقواته المسلحة، لوجب علينا أن نعيد الأمر إليه من حيث بدأه هو، فنسأله عن التزاماته كشريك فى الدفع بها ــ وهو من يدير شئون البلاد انتقاليا ــ ويحوز دون الشعب على نحو احتكارى وباسمه ولحسابه أدوات الإجبار، أن يسارع بإكمال مهمة اجتثاث جذور النظام القديم وتسريع محاكمات رموزه، وأن يسارع كذلك وعلى نحو صحيح بالتقدم على طريق تأسيس النظام الجديد، بوضع الدستور والاستفتاء عليه، وإجراء انتخابات الرئاسة إنهاء للمرحلة الانتقالية، ووصولا بالوطن لما نصبوا جميعا إليه كشركاء فى ثورته. فالشراكة فى الثورة تنشئ فى ذمة الشريك التزاما يتحمل به ما بقيت شراكته قائمة، وهو ما نأمل من المجلس الأعلى أن يعمل من أجله، إدارة للعهدة الوطنية التى نيطت به انتقاليا ــ وهى ليست أقل ولا أدنى من عهدة الحرب ــ بذهنية ونفسية شركاء الثورة، بلوغا للنصر.