فن المهاترات فى عزاء جنرال المخابرات

وائل قنديل
وائل قنديل

آخر تحديث: الإثنين 23 يوليه 2012 - 9:25 ص بتوقيت القاهرة

من أكثر العبارات النابية المبتذلة التى تصيبك بالغم والهم هذه الأيام أن يتهافت أحدهم ويطلق على شاب أحرق نفسه فى دولة العدو الصهيونى «بوعزيزى إسرائيل» ذلك أن هذا يعد من ساقط القول الذى يدس السم الإسرائيلى فى عسل الربيع العربى الذى انطلق من مدينة سيدى بوزيد التونسية بإقدام المواطن العربى محمد البوعزيزى على إشعال النار فى نفسه التى لم تتحمل مهانة صفع شرطية له.

 

وعليه فإن الربيع العربى هو ربيع الحريات والكرامة الإنسانية قبل أن يكون ربيع الخبز، بمعنى أنه هذا الربيع الرائق النقى انطلق من منطقة الضمير والكبرياء الإنسانى  كاستجابة أخلاقية لمعان نبيلة، وليس من المعدة أو استجابة بيولوجية لنداء بطون خاوية، مع كل التقدير والاحترام للثورات والهبات التى تندلع طلبا للخبز ووسائل المعيشة المحترمة.

 

وأجمل ما فى الثورات العربية أنها إبداع محلى صرف، بمكونات من التربة العربية، تعبيرا عن جوع وطنى لمفردات غابت عن المجتمع العربى، كالحرية والكرامة وحقوق الإنسان، ومن ثم من الحمق أن تقارن بغيرها من مظاهر حراك مجتمعى فى الكيان الصهيونى مثلا، والأكثر حمقا أن يحاول أحد تشبيه مواطن عربى هو نبت لهذه الأرض، بمستوطن صهيونى زرع بشكل شيطانى فى أرض ليست له أو لآبائه المحتلين المغتصبين.

 

غير أنها الخفة والسطحية التى يمارسها بعض الإعلام أحيانا عن جهل، وبمنتهى الخبث والإسفاف فى أحيان أخرى، وكأنه يمارس عملية تطبيع سمعية يستوى فيها البوعزيزى العربى مع أى مستعمر صهيونى.

 

وهذه الخفة هى ذاتها التى يستخدمها البعض وهم يرددون بمنتهى البجاحة أن فرص الديمقراطية فى مصر ماتت برحيل جنرال المخابرات الحديدى عمر سليمان، وكأنه كان رسول الديمقراطية والحرية فى بلاد نكبت بحكمه هو ورئيسه، فتحولت على مدار عقدين من الزمان إلى معتقل فسيح، يساق إليه الآلاف كالذبائح ولا يظهر لهم أثر بعدها، حيث تتحدث الركبان عن أرقام مهولة من ضحايا التعذيب والقهر، ناهيك عن عمليات التعذيب بالوكالة عن الولايات المتحدة التى كانت ترسل ضحاياها لنيل حصتهم من التعذيب فى مصر على أيدى أجهزة القمع المصرية.

 

وتصدمك هذه القدرة على تزييف الحقائق والكذب حين يصبح اسم السيد عمر سليمان مرادفا للديمقراطية والحرية، وهو الذى كان يعلن بلا مواربة فى الأيام الأخيرة قبل سقوط المخلوع نزيل طرة احتقاره وكراهيته لثورة المصريين من أجل الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية، وهو الذى بقى يعتبر هذه الثورة مخططا أجنبيا، هذه الثورة التى وقف لها العالم كله احتراما وانبهارا بقدرة العقل المصرى على تقديم إبداع سياسى استقر كعلامة فى تاريخ الشعوب والحضارات.

 

ومع كل التقدير لحزن الحزانى وغضب يتامى المخلوع والجنرال، فإن محاولة إقناعنا بأن سليمان مات حزنا على مصر، لن تؤدى إلا إلى نتائج عكسية لا تتناسب أبدا مع ما عرف عن المصريين من احترام الأحزان والمآتم، فالرجل قد يكون رحل كمدا على ضياع الأمل فى عودة دولته العميقة، والحاصل أن مصر فى نظر العقلاء فى وضع يدعو للفخر وليس للأسى، ويكفيها أنها أسقطت رأس نظام فاسد فى أيام معدودات، ثم سجلت انتصارا على التاريخ بتمردها على السيناريو الرومانى وأسقطت ظل رأس النظام فى انتخابات رئاسية مورست فيها كل أشكال الإرهاب لإعادة دولة مبارك وعمر سليمان.

 

خارج السياق: ستبقى ثورة يوليو وجمال عبدالناصر ضوءا مقيما فى الوجدان المصرى، رغم أنف الكارهين الحاقدين، ورغم تفاهة وضحالة كثير من المتمسحين فى اسم عبدالناصر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved