انقلاب تركيا المدنى
أحمد عبدربه
آخر تحديث:
السبت 23 يوليه 2016 - 9:30 م
بتوقيت القاهرة
لم يكن فشل محاولة الانقلاب العسكرى على نظام حكم الرئيس رجب طيب أردوغان ليلة الجمعة ١٥ يوليو سوى مقدمة لتعضيد وتسريع عملية الانقلاب المدنى التى بدأها أردوغان نفسه قبل عامين منذ أن قرر ترك رئاسة الوزراء ليتم انتخابه رئيسا فى نظام سياسى مازال يعطى لرئيس الوزراء فى مقابل رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة!
سبق أن كتبت فى «الشروق» عن سلسلة الإجراءات غير الاعتيادية التى بدأها أردوغان منذ العام ٢٠١٤ على هامش زيارة بحثية لتركيا فى صيف ٢٠١٤، وشرحت فى إحدى تلك المقالات «ماذا يحدث فى تركيا؟ أردوغان وأوغلو» والمنشورة فى هذه المساحة بتاريخ ٧ سبتمبر ٢٠١٤ عن تلك العلاقة الغريبة التى ستنشأ بين الرجلين ومستقبل التغيرات فى تركيا من خلالها.
منذ ذلك الحين واصل أردوغان إجراءاته غير الديموقراطية وعزز ذلك نجاح حزبه فى تشكيل الحكومة بعد إعادة الانتخابات العام الماضى ليمضى الرجل غير مبالٍ بالانتقادات الحادة التى تعرض لها داخليا وخارجيا، كما تمكن من استخدام ورقة اللاجئين بنجاح فى مناورة دول الاتحاد الأوروبى وهو ما جعل بعض المراقبين يتوقعون انقلابا عسكريا قريبا.
فى مقابلاتى البحثية فى ذلك الصيف كان العلمانيون والإسلاميون على السواء يتوقعون نجاح أردوغان التام فى السيطرة على الجيش إلا عسكرى سابق بالجيش التركى ومحاضر جامعى يدعى «مصطفى أولكيكار» كان رأيه أن ما يحدث فى تركيا ليس سيطرة مدنية على المؤسسة العسكرية ولكنه سيطرة «لحزب العدالة والتنمية» على الجيش بعد صفقة سياسية واقتصادية توقع وقتها أنها لن تصمد كثيرا. وعلى الرغم من أن تحليل «أولكيكار» كان غير مدعوم من معظم من التقيته فإن توقعاته تحققت بشكل جزئى خلال العامين الماضيين وصولا إلى محاولة الانقلاب الفاشلة الأسبوع الماضى.
لكن ماذا تعنى تلك المحاولة الفاشلة بالنسبة لتركيا؟
أحاول الإجابة من منظور علم «العلاقات المدنية العسكرية» والذى تطور كثيرا خلال العقود الأربعة الماضية. حدث ذلك التطور من مجرد التركيز على ظاهرة الانقلابات العسكرية والبحث عن سبل تجنبها باعتبار أن «السيطرة المدنية» على المؤسسة العسكرية هى غاية المراد، إلى الحديث عن علاقة تفاعلية تفاوضية بين المدنيين والعسكريين من أجل السيطرة على ــ أو ــ تقسيم السلطة، ثم إلى قفزة لاحقة استندت على ثلاثة تطورات فى فهم الباحثين المتخصصين:
التطور الأول: أن الهدف ليس فقط تحقيق «السيطرة المدنية» على المؤسسة العسكرية، ولكن أن تكون تلك السيطرة «ديموقراطية» وهو ما يعنى أن تمكن المدنيين من السيطرة ليس نهاية المطاف لأن هذه السيطرة قد تحدث من خلال مدنيين غير منتخبين ديموقراطيا أو منتخبين ديموقراطيا ولكنهم لا يتبعون إجراءات ديموقراطية ومن هنا فيستوى حكمهم مع حكم المؤسسة العسكرية لأنه غير ديموقراطى فى الحالتين مثلما هو الحال فى دول مثل روسيا أو الصين والتى توجد بها سيطرة مدنية ولكنها غير ديموقراطية.
التطور الثانى: أن التركيز لم يعد فقط على العلاقات المدنية العسكرية، ولكنه أصبح على العلاقات المدنية ــ الأمنية، وكان ذلك التطور بسبب اكتشاف حالات لدول كان التزام المؤسسة العسكرية بدورها الدفاعى وعدم انشغالها بالشأن السياسى ليس ضامنا للديموقراطية، حيث سيطرت مؤسسات أخرى أمنية ومعلوماتية مانعة الديموقراطية من التأسيس.
أما التطور الثالث والأخير فكان متعلقا بتغيير مقاييس حساب السيطرة المدنية بحيث أصبح هناك قبول واسع لقيام المؤسسة العسكرية لأدوار تتجاوز الدور الدفاعى التقليدى، بحيث أصبحت دراسات العلاقات المدنية العسكرية تتقبل قيام الجيوش بأدوار تتجاوز المهام التقليدية كمحاربة الإرهاب ومكافحة الجريمة المنظمة وحفظ الأمن الداخلى فى حالة الاضطرابات، فضلا عن دورها فى الكوارث الطبيعية.
بالعودة إلى الحالة التركية فقد فشلت المحاولة الانقلابية لكن لا يعنى هذا إلا أن تركيا إما أنها دخلت فى حلقة مفرغة من الانقلابات العسكرية المتوالية والعنف السياسى والاغتيالات التى قد تطال كبار مسئوليها وعلى رأسهم أردوغان نفسه وإما أنها دخلت فى مرحلة سيطرة مدنية ولكنها غير ديموقراطية من خلال تأسيس ديكتاتورية أرودغانية تجهز تماما على مستقبل الديموقراطية والتعددية.
الاحتفاء المبالغ فيه بسرديات من قبيل «وعى الشعب التركى الذى رفض الانقلاب» أو «تعلم أردوغان الدرس للعودة إلى الديموقراطية» أو «نهاية عصر الانقلابات العسكرية فى تركيا» غير دقيق وقد يعبر عن أمنيات طيبة ولكنها تتجاهل طبيعة الصراعات السياسية الصفرية والتى لا مجال فيها لحلول وسط أو تفاهمات وتعتمد بشكل أساسى على التخلص من الخصم بأسرع وقت وبلا هوادة لأن هذا الخصم لو نجا سيقوم بدوره من الانتقام وهكذا! وقد كان توقعى الشخصى صباح محاولة الانقلاب الفاشلة أن أردوغان سيتخذ المزيد من الإجراءات القمعية وهذا ما حدث بالفعل، ولكن لماذا يتصرف أردوغان على هذا النحو وما هو مستقبل تركيا السياسى على هذا النحو؟
اعتمد نموذج أردوغان الناجح على ثلاثة محاور رئيسية، الأول هو تمكنه من تحقيق طفرة اقتصادية لم تكتف بالأرقام الكلية ولكنها اعتمدت على توزيع ناجح رفع من مستوى الطبقات المتوسطة وما دونها، والثانى هو تمكنه من السيطرة على المؤسسة العسكرية بحيث التزمت الأخيرة ثكناتها ولم تتحرك بدون إذن مدنى من أردوغان أو البرلمان، وثالثها تمكنه من الحفاظ على نظام ديموقراطى تعددى تمكن من إيجاد أرضية مشتركة للعلمانيين والإسلاميين فى إطار احترام الدستور والقانون.
إذن فمجرد تحرك الجيش أو بعض وحداته فإن هذا وبغض النظر عن فشله يمثل اهتزازا لأحد أهم ثوابت حكم وإنجازات أردوغان، لأن نجاح سيطرة المدنيين الديموقراطية لا تعنى تمكنهم من هزيمة الانقلاب ولكنها تعنى عدم السماح للانقلابات أن تحدث من الأساس، لأنه وفى خبرات مشابهة فإن محاولات الانقلاب سواء كللت بالفشل أو النجاح لا تعنى سوى الدخول فى حلقات مفرغة من عدم الاستقرار السياسى الذى يحتاج إلى سنوات طويلة من أجل العودة إلى الاستقرار واستعادة العملية الديموقراطية مرة أخرى.
***
إذن فمحاولة الانقلاب على أردوغان لا ينبغى أن يتم النظر إليها كحركة تصحيحية لإعادة المسار الديموقراطى كما ادعى المنقلبون فى الساعات الأولى للمحاولة، كما أن هزيمة الانقلابيين أو إفشالهم لا تعنى بالمثل استعادة الديموقراطية، لأن فرص الأخيرة كانت كبيرة فى النجاح قبل أن تتحرك بعض وحدات الجيش أما وقد تحرك الأخير فإن هذا يعنى ببساطة انتهاء فرص الوفاق المدنى المدنى فى تركيا والتى تمكن أردوغان من تحقيقها بشكل كبير فى الفترة من ٢٠٠٢ وحتى الفترة الثالثة لرئاسته الحكومة، إذن فما هى سيناريوهات المستقبل التركى خلال السنوات الخمس القادمة؟
على الرغم من سيولة الوضع الإقليمى ــ وهو ما يشكل عبئا كبيرا فى إمكانيه رسم سيناريوهات للمستقبل التركى ــ فإنه يمكن أن نرسم سيناريوهين كبيرين: الأول أن يعيد الجيش أو إحدى وحداته محاولة الانقلاب على أردوغان، لو نجحت المحاولة فسيعنى هذا انسحابا شكليا للجيش من الحكم المباشر مع استمراره فى رسم قواعد اللعبة من الكواليس عن طريق تحريك المدنيين والأحزاب غير الإسلامية لتبدو وكأنها تحكم فى الواجهة مع احتمالات كبيرة لتغيير الدستور، ولو فشلت المحاولة مجددا فلن يعنى هذا سوى الدخول فى المزيد من عدم الاستقرار السياسى الذى قد يشهد اغتيالات سياسية وعمليات إرهابية وحلقات مفرغة من العنف والعنف المضاد التى قد تنتهى بمزيد من الانقلابات وهكذا، أما السيناريو الثانى أن يتمكن أردوغان سريعا من عملية السيطرة على مفاصل السلطة وهو ليس أمامه نحو هذا الطريق سوى مزيد من الاعتقالات والتوقيفات والانتقام من كل الخصوم الحاليين والمحتملين ليتمكن هو وحزبه من تحقيق سيطرة مدنية ولكنها ستكون بكل تأكيد غير ديموقراطية!
فى تقديرى لن تتغير هذه المعادلة إلا لو تخلص حزب العدالة والتنمية نفسه من أردوغان وتمكن من تصعيد كارزما جديدة إلى مقاعد القيادة تتمكن من تحقيق مصالحة سياسية شاملة قائمة على تفاهمات مع كل الفاعلين السياسين والمؤسسات الدولاتية بما فيها الجيش والقضاء وهو احتمال ضعيف الآن.
فرص نجاة الديموقراطية تصبح ضئيلة للغاية فى حالة تحرك الجيش من ثكناته بهدف السيطرة على السلطة بغض النظر عن فشل أو نجاح هذا التحرك، وهذه خبرة مهمة للمنشغلين بمستقبل الديموقراطية نظريا أو عمليا ليعرفوا أن العلاقات المدنية المدنية تكون فى الكثير من الأحيان أهم بكثير من الانشغال بالعلاقات المدنية العسكرية، لأن نجاح الأولى شرط لنجاح الثانية، أما فشل الأولى فلا يعنى سوى المزيد من التدهور الديموقراطى سواء كان ذلك على يد مدنيين أو عسكريين لأن النتيجة فى النهاية واحدة ألا وهى انفتاح باب الصراعات الصفرية الانتقامية، وهذا فى تقديرى النفق الذى دخلت فيه تركيا حتى لو حاول أردوغان تجميل الوضع لاحقا.