حلم يوليو الذى انكسر
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأحد 23 يوليه 2017 - 8:40 م
بتوقيت القاهرة
كأن ثورة يوليو لم تنقض منذ عقود طويلة، إرثها ماثل فى الذاكرة العامة والصراع حولها لا يتوقف.
بحكم قوانين الطبيعة غادر أغلب أبطالها ومعاصريها مسارح الحياة، فقد مرت عليها (٦٥) سنة.
وبأثر انقلابات السياسة قوضت التوجهات والخيارات التى تبنتها بعد رحيل زعيمها «جمال عبدالناصر» منذ نحو (٤٧) سنة.
على الرغم من ذلك كله فإنها تبدو رقما صعبا يستحيل إغفاله أو تجاوزه فى النظر إلى أى مستقبل.
قوة يوليو فى الأحلام الكبرى التى أطلقتها ونقطة ضعفها فى نظامها السياسى الذى أخفق فى الحفاظ على مشروعها.
وقد كان حلم بناء دولة عربية موحدة ومنيعة صلب مشروع يوليو الذى انكسر، أمام احتمالات التقسيم البادية الآن فى مشاهد النار بالمشرق العربى ومناطق عربية أخرى فإن الأسئلة تطرح نفسها: لماذا انكسر العالم العربى وفقد ثقته فى نفسه ومستقبله بعد أن حلقت أحلامه فى عنان السماء؟.. كيف وصلنا إلى الكابوس؟.. ثم إلى أين المصير؟
هناك مجموعتان من الإجابات.. الأولى ـ تدور حول الصراع على المنطقة ومستقبلها، فمشروع الوحدة موضوع صراع ضارٍ، وقد ناهضته قوى دولية وإقليمية ذهبت إلى استخدام السلاح والتآمر، وهذا ثابت بعشرات الوثائق.. والثانية ـ تعود إلى ثغرات جوهرية فى تجربة الوحدة المصرية السورية، التى مكنت من الانقضاض عليها وتصفيتها بالانفصال بعد ثلاث سنوات ونصف السنة، وهذه خضعت لمراجعات عديدة لكنها لم تستقر على أية رؤية تؤسس لتجارب أخرى أكثر نضجا وقدرة على البقاء حتى داهمتنا بعد عقود احتمالات تقسيم سوريا والعراق وليبيا واليمن ودول عربية أخرى تطلعت ذات يوم للوحدة بينها.
لم تكن تجربة الوحدة رحلة نيلية ذات صيف بقدر ما كانت مواجهات مفتوحة امتدت بعمق الخريطة العربية، وقد ارتبطت بالتحرر من الاستعمار والتبعية واستقلال القرار الوطنى، دارت معارك مع سياسة الأحلاف التى اتبعتها الولايات المتحدة فى محاولة لملء الفراغ فى المنطقة بعد الهزيمة السياسية المدوية للإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية ومعهما إسرائيل فى حرب السويس (١٩٥٦).
لم تخترع ثورة يوليو المشروع العروبى لكنها جسدته أملا حيا على الأرض بسياسات تبنتها ومعارك خاضتها.
ولم تكن زعامة «عبدالناصر» افتراضية على صفحات الجرائد وأثير الإذاعات بقدر ما كانت إلهاما لفكرة التغيير والقدرة عليه.
امتد إلهام تأميم قناة السويس، الذى استبق الحرب مباشرة، إلى العالم الثالث كله، حيث تمكنت دولة صغيرة مستقلة حديثا من الصمود أمام العدوان الثلاثى، وأن تخرج بعد الحرب لاعبا رئيسيا فى المعادلات الإقليمية والدولية وباتت القاهرة العاصمة المركزية للعرب.
تمكنت مصر من دحر سياسة الأحلاف وأسست مع يوغوسلافيا والهند حركة عدم الانحياز، وقادت أكبر عملية تحرير فى التاريخ للقارة الإفريقية مطلع الستينيات من القرن الماضى.
فى قلب الصراع على الاستقلال تبدت سياسة عربية واضحة فى أهدافها، انحازت مصر لثورة الجزائر وعروبتها ضد الاحتلال الاستيطانى الفرنسى ودعمتها بالمال والسلاح والإعلام، وقد كان هذا الانحياز أحد دوافع العدوان الثلاثى عليها.
عندما وصل «عبدالناصر» إلى ميناء الجزائر بعد تحريرها كانت العاصمة كلها فى انتظاره، وكادت اندفاعات مئات الألوف أن تحطم السيارة التى استقلها مع الزعيم الجزائرى «أحمد بن بيللا»، مما اضطرهما إلى اعتلاء سيارة إسعاف للوصول إلى استاد «البلدية»، حيث ألقى كلمة مقتضبة ابتدأها بـ«الحمد لله الذى أحيانا حتى نرى الجزائر عربية».
لم يشر بحرف واحد لما بذلته مصر من أجل نصرة الجزائر، ولا منّ بحرف واحد على شعبها الأبى الذى ضحى بمليون ونصف المليون شهيد.
هكذا تبدت قوة الفكرة العروبية وعمق الالتزام بها.
كان جرح الانفصال غائرا عند تحرير الجزائر، انكسر حلم لكن تبدى أمل جديد.
فى الجزائر تكرر المشهد التاريخى، الذى واكب أول زيارة لـ«عبدالناصر» للعاصمة السورية دمشق، هتافات الملايين تنشد الوحدة وتأمل فى عالم عربى جديد، وجموع حملت سيارته كمن يحمل أحلامه.
المعنى أكبر من الرجل والحلم ـ حتى لو انكسر ـ أبقى فى ذاكرة التاريخ.
وعلى الرغم من كل ما هو منسوب للدور المصرى فى حرب اليمن من أخطاء فإنه باليقين نقل هذا البلد العربى من القرون الوسطى إلى العصور الحديثة.
كما أنه أفضى إلى تحرير اليمن الجنوبى من الاحتلال البريطانى والسيطرة على مضيق باب المندب، حتى بات البحر الأحمر عربيا بالكامل، وهو ما ساعد مصر أثناء حرب أكتوبر (١٩٧٣) بإغلاق هذا المضيق فى وجه الملاحة الإسرائيلية.
لكل حلم استحقاقاته ولكل أمل معاركه.
أرجو ـ أولا ـ ألا ننسى أن الفكرة العروبية الحديثة نشأت فى المشرق العربى، الذى يتعرض الآن لتخريب لمقدراته وتلوح فوق الخرائب خرائط التقسيم، لمناهضة سياسات «التتريك»، كما أنها دمجت المسلمين والمسيحيين فى نسيج فكرى وثقافى وسياسى واحد على نحو غير معتاد من قبل، وأحد الأسباب الجوهرية الماثلة حاليا لزعزعة الوحدة الداخلية لبلدان عربية كثيرة، غياب أى مشروع للدمج على أساس قواعد المواطنة والمساواة أمام القانون بين مكوناته وتنويعاته.
وأرجو ـ ثانيا ـ ألا ننسى أن التيار القومى فى اندفاعاته الأولى ناهض مشروع الجامعة العربية عند نشأتها منتصف أربعينيات القرن الماضى، اعتقادا أن الهدف منها الحفاظ على واقع التجزئة فى العالم العربى، وحتى تكون «الدول الإقليمية» حاجزا نهائيا ضد «الدولة العربية الواحدة».
فى اتفاقية «سايكس بيكو» قبل مائة عام قسمت دول واصطنعت أخرى، وبدت الجامعة العربية حاضنة سياسية لما جرى من تجزئة وتقسيم.
كان الدعم البريطانى لمشروع الجامعة العربية بذاته داعيا للشكوك والريب فى أهدافه.
هكذا كان صراع الأفكار والسياسات قبل يوليو، التى أعطت زخما ميدانيا للفكرة العروبية بمعانيها الحديثة.
الآن قمة المنى الحفاظ على حدود «سايكس بيكو» وصيانة الدول الإقليمية من احتمالات التقسيم حتى لا يضيع كل أمل فى أى مستقبل.
بقاء الجامعة العربية على قيد الحياة أصبح بذاته أملا، إذا ما تهدمت فإن نظاما إقليميا جديدا سوف ينشأ العرب هم الطرف الأضعف فيه.
هكذا تأخذ المفارقات مداها فى عالم عربى آخر غير الذى حلم بالوحدة.
وأرجو ـ ثالثا ـ ألا ننسى أن نكبة فلسطين عام (١٩٤٨) كانت دافعا رئيسيا للفكرة العروبية وطلب الوحدة.
تحت الصدمة جرت مراجعات رئيسية عما جرى وما قد يجرى أفضت تداعياتها إلى ضخ دماء فوارة بالغضب والأمل معا فى شرايين الفكرة العروبية.
بات اعتقادا جازما لدى جماعات عديدة ونخب واسعة أن الوحدة العربية طريقنا لتحرير فلسطين، وجرى الربط بينها وبين قضية التنمية والعدل الاجتماعى، بهذا المعنى الواسع أصبحت فلسطين قضية العرب المركزية، فكل فكرة تبدأ وتنتهى عندها.
وقد أدى تفكيك القضية الفلسطينية مرحلة بعد أخرى إلى تفكيك إحدى أقوى الروابط العربية وأخذ التحلل يضرب كل شىء.
وأرجو ـ رابعا ـ ألا ننسى أنه بعد حرب أكتوبر (١٩٧٣) عملت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على فصل مسارات التسوية واعتماد الحلول الجزئية مع كل دولة على حدة لتفكيك ما يسمى بوحدة الموقف العربى.
هكذا خرجت مصر من الصراع العربى الإسرائيلى بحل منفرد فى اتفاقية «كامب ديفيد».
وهكذا همشت أدوارها فى العالم العربى، كما فى إفريقيا والعالم الثالث بأسره الذى أخلينا مواقعنا فيه وتنكرنا لمعاركنا السابقة التى أكسبتنا وزنا استثنائيا فى معادلاته وحساباته.
وهكذا علت أصوات ـ هنا فى مصر ـ تشكك فى عروبتها والمعارك التى خاضتها يوليو، وتدعو إلى الحياد مع قضايا العالم العربى، وقيل إن مصر لن تحارب حتى آخر جندى مصرى من أجل فلسطين، وكان ذلك تدليسا على الحقيقة، فمصر حاربت من أجل مصر قبل أى شىء آخر.
عندما جرى تفكيك مشروع يوليو اعتلت الذاكرة العامة نفسها، لم نعد نعرف لماذا حاربنا حين حاربنا؟.. ولا لماذا انكسرنا حين انكسرنا؟.
جرى تكريس الانكسار كأنه كلمة التاريخ الأخيرة، غير أنه فى نهاية المطاف سوف تعلن الحقائق عن نفسها، فهناك أمة عربية واحدة لكنها ممزقة ومهانة، وعروبة مصر حقيقة لا خيالا.
حلم يوليو فى دولة منيعة واحدة يكتسب شرعيته التاريخية الآن من حجم الإذلال الذى يتعرض له العرب، كما لم يحدث فى تاريخهم كله.
الأحلام قد تنكسر لكنها تستعصى بيقين على الموت ولا يمكن استبعاد ـ بقانون رد الفعل التاريخى ـ موجة قومية عربية جديدة تخرج من تحت الحطام.