هيبة الدولة
خالد فهمي
آخر تحديث:
الجمعة 23 أغسطس 2013 - 9:15 ص
بتوقيت القاهرة
يقال عادة إن مصر شهدت أول دولة مركزية فى العالم. قد يكون هذا صحيحا، ولكن الدولة المصرية الحديثة لا علاقة لها بالفراعنة أو البطالمة. الدولة المصرية الحديثة عمرها لا يزيد على مائتى عام.
حدثان مفصليان أسسا لهذه الدولة الحديثة ويمكن التأريخ بهما لميلادها. الحدث الأول هو مذبحة المماليك عام 1811 التى قضى فيها محمد على، على الأرستقراطية العتيدة التى كانت تتحكم فى البلاد والتى أدى القضاء عليها إلى تكوين مركز ثقل وحيد فى البلاد، أى محمد على وأسرته.
أما الحدث الثانى فكان تكوين جيش نظامى حديث مبنى على التجنيد. فبعد أن فشل فى جلب عبيد من السودان ليكوّن منهم جيشا يدين له بالولاء اتخذ محمد على فى فبراير 1822 قرارا غيّر من طبيعة مصر والمجتمع المصرى للأبد. ففى هذا الشهر أصدر أوامره لحكام الصعيد بجمع أربعة آلاف فلاح من الصعيد وتدريبهم تدريبا عسكريا حديثا. وما هى إلا شهور قليلة حتى طُبق التجنيد فى الدلتا.
قاوم المصريون التجنيد مقاومة ضارية، فرجال الباشا كانوا يسوقونهم لمعسكرات التدريب كما تساق الخراف للمذبح، وكانت فترة التجنيد غير محددة، وإمكانية الترقى لطبقة الضباط أو صف الضباط كانت منعدمة، إذ إن الباشا كان قد عزم على تكوين ضباط جيشه من الغلمان الذين كان قد أسرهم من بيوتات أمراء المماليك المذبوحين فى مذبحة 1811. كما جاءت سياسة التجنيد لتتوج مجموعة من السياسات القمعية التى فرضها الباشا على المجتمع والتى تراوحت بين الضرائب الباهظة، للسخرة، للاحتكار.
وبالتالى ثار المصريون عن بكرة أبيهم على سياسة التجنيد، وكانت مقاومتهم أشد فى الصعيد حيث اندلعت علم 1824 ثورة عارمة من إسنا حتى أسوان شارك فيها أكثر من ثلاثين ألف فلاح وفلاحة. وسرعان ما أن انتشر العصيان للوحدات العسكرية التى كانت قد شُكلت لتوها، واشترك فى الثورة 700 من الفلاحين المجندين حديثا، وبدا وكأن الدولة الجديدة التى شرع محمد على فى تأسيسها على وشك الانهيار.
عندها اتخذ محمد على أهم قرار فى حياته: أمر الألاى (أى اللواء) الأول الذى كان قد شُكّل لتوه بالهجوم على معقل الثوار. ولمدة ثلاثة أشهر دارت معارك عنيفة بين الأهالى والجيش الحديث انتهت بانتصار الجيش، ولكن ليس قبل أن يقتل أكثر من ثلاثة آلاف رجل وامرأة.
●●●
تذكرت هذه الواقعة اليوم عندما انتهيت من قراءة تقرير «هيومان رايتس» عن فض اعتصام رابعة الذى وصفه التقرير بأنه أسوأ عملية قتل جماعى فى تاريخ مصر الحديث. أعقد هذه المقارنة ليس للتذكير بأن أول عملية قتالية قام بها الجيش النظامى الحديث الذى أنشأه الباشا كان قتل المصريين، وليس للتساؤل عن أى من العمليتين كانت الأسوأ، ولكن للتساؤل عن جدوى استخدام العنف وتكلفته.
أما عن الجدوى فلا شك عندى أن العنف مجدٍ. فعودة لعام 1824: لولا اتخاذ محمد على لقرار محاربة الثوار والاستعداد لدفع تكلفة الأرواح المزهقة لما أصبح لمصر جيش ولما أسست الدولة الحديثة. كما أضيف بالقول إنه ساذج من يظن أن العنف لا يمكن أن يقتل فكره.
فالجيش الإندونيسى، كنظيره التشيلى، نجح فى القضاء على الشيوعية، كما نجح عبدالناصر عن طريق التأميم والمصادرة والاعتقالات والعزل السياسى ومصادرة الحريات الشخصية، نجح فى القضاء على الليبرالية.
إذن قد ينجح الجيش فعلا فى القضاء تماما ليس فقط على الإخوان كتنظيم بل الإخوان كفكرة.
●●●
ليس هذا هو السؤال. السؤال هو تكلفة هذا النجاح، ولا أقصد فقط التكلفة المحسوبة بالأرواح المزهقة بل التكلفة الاجتماعية والأخلاقية. ولنعد لجيش الباشا: بعد أن ربح مقامرتى مذبحة المماليك التى وفرت له ضباط جيشه المرتقب، وفض تمرد الصعيد الذى وفر له جنود ذلك الجيش، نجح محمد على فى إقامة آلة عسكرية لم تشهد لها مصر مثيلا. استخدم محمد على هذه الآلة الجهنمية فى فرض سيطرته على السودان والحجاز وكريت واليونان والشام وأجزاء من الأناضول، حتى استطاع أن يكوّن بها امبراطورية صغيرة.
خطابنا القومى يؤكد أن تكالب الدول الأوروبية على مصر وتآمرها عليها هو الذى قوض دعائم هذه الامبراطورية ووأد مشروع محمد على النهضوي. ولكنى وبعد أن أمضيت سنوات طويلة فى دراسة تاريخ هذا الجيش معتمدا على وثائقة الرسمية، وخاصة خطابات محمد على نفسه، خَلُصت إلى أن سبب هزيمة المشروع النهضوى هو أنه لم يكن مشروعا نهضويا ولا يحزنون، بل كان يهدف لتحقيق أطماع الباشا الأسرية. نجح الباشا فى مشروعه ولكن ليس قبل أن يذل المصريين ويقهرهم، الأمر الذى علق عليه الإمام محمد عبده بالقول إن محمد على «كان تاجراً زارعاً وجندياً باسلاً ومستبداً ماهراً لكنه كان لمصر قاهراً، ولحياتها الحقيقية معدماً».
أيام محمد على لم يكن بمصر إعلام ولا حقوقيون ولا رأى عام يتصدى له ويسأله هذا السؤال المحورى: ما ثمن تأسيس دولة حديثة وما جدواها إذا كان الثمن هو أرواح مواطنيها؟ أما الآن فيفترض أن لدينا إعلاما ورأيا عاما يطرح نفس السؤال إزاء الأزمة التى نمر بها: ما ثمن تصدى الجيش للإخوان وما جدوى هذه المواجهة؟
هناك من يرى فى صدام الجيش والشرطة مع الإخوان صداما وجوديا لا يجب أن تعوقه مثل تلك الأسئلة. نحن أمام جماعة استباحت هيبة الدولة وامتهنتها، يقولون، بل إنها روعت المواطنين وعذبتهم وقتلتهم، وبالتالى فلا هوادة أو تهاون.
أوافق، ولكن لا أستطيع أن أمنع نفسى من التساؤل عن التكلفة. نحن أمام فئتين: الأولى مجرمة حملت السلاح بطريق غير شرعى. وفى المقابل هناك جهة أعطيناها، كمجتمع، حق حمل السلاح والدفاع عنا.
تساؤلى عن مسئوليتنا كمجتمع فى مراقبة هذه الجهة الشرعية فى أداء واجبها. هل فض اعتصام رابعة تم بشكل قانونى؟ هل استُخدمت القوة المفرطة؟ من المسئول عن قتل المساجين فى سيارة الترحيلات؟ هذه ليست أسئلة أكاديمية أو تافهة. هذه أسئلة جوهرية وضرورية لا نملك ترف عدم طرحها. لماذا؟ لأن عدم طرحها وغض النظر عن انتهاكات الجيش والشرطة بدعوى استثنائية اللحظة يسحب من هاتين المؤسستين شرعية استخدامهما للسلاح، فشرعية سلاح الجيش والشرطة مرهونة بموافقة الشعب وبقدرته على إعمال رقابته على هاتين المؤسستين.
فبدون هذه الرقابة وبدون طرح هذه الأسئلة فى هذا الوقت الحساس تحديدا نكون قد أعطينا الضوء الأخضر للجيش والشرطة ليس فقط للقضاء على جماعة الإخوان ولكن أيضا لتدمير المجتمع وإفقاد هيبة الدولة.