˝قامُوس المَأزومين
بسمة عبد العزيز
آخر تحديث:
الجمعة 23 أغسطس 2024 - 6:00 م
بتوقيت القاهرة
عَبَس الشابُّ مع الإجابة التي تحصَّل عليها من الأسطى الواقِف في الوَرشة. لم يكن بمَقدوره تحمُّل الكُلفة التي سَمعها في التوّ مهما اجتهد؛ وإذ بدا إصلاحُ العَربة أمرًا مستحيلًا في اللحظة الآنية؛ فقد تلقَّى من الأسطى المُواساة الوَحيدة المُمكِنة: ما تأزّمش نفسَك، بكرة تُفرَج. لم تبدُ الكلماتُ القليلة مُقنِعَة لأيّهما؛ جاءت فقط بحُكم العَادة وعَجزًا عن إيجاد حلّ آخر.
• • •
تقول قواميس اللغة العربية أن الفعل تأزَّم يعني اشتدَّ وضاقَ وتعقَّد، المُتأزِّم بتشديد الزاي وكسرِها فاعلٌ، والتأزُّم بضمّها مَصدَر. أما المَأزومُ فهو الشَّخص الذي أصابته أزمَة، وهو مُشتَقٌ من الفعل أزَم.
• • •
أشهرُ الأزمات التي يَمُر بها المَرء هي تلك التي تَصحُب انتصافَ العُمر؛ إذ يقفُ على الحَدّ الفاصِل بين مَرحلتين مُتَّصلتين لكنهما مُختلفتين، ويَنظر إلى حياته بشَيء مِن التأمُّل والتريُّث مِن بَعد لهاث طويل، وربما يشعُر بالنَّدم على بعضِ ما فاته، ويحاول تعويضَه بشتى الطُرق.
• • •
عادة ما تُوصَف الأزمَةُ الاقتصاديَّة الشَديدة بأنها طاحنة، والوَصف صَادقٌ دَقيق؛ فالطَّحن عمليةٌ يتحول فيها القمح إلى مَسحوق لا يُمكن تَمييز حُبيباته، وكذلك يَحدث لهؤلاء البَشر الذين تدكُّهم صواعق الفقر المتعاقبة، فتفتتهم وتتركهم في حالٍ بائسة.
• • •
لا يتأتى عبور الأزمة سوى بمَعرِفة الأسباب التي أدَّت إليها والمُلابسات التي تخلَّلتها، ومِن ثمَّ يُمكن انتهاج السُبل المُمكِنة لمُعالجتها. تبدو بعضُ الأزماتِ على قدرٍ مِن الغُموض، لا يُعرَف مَنشأها على وَجه التحديد؛ في حين يرى بعضها الآخر واضحًا يمكن الوقوف على تفصيلاته.
• • •
إذا أصيب المرءُ بأزمة نفسيَّة احتاج للمُساندة مِمَن حوله، وإذا دَلف إلى عُمق الأزمة الوُجودِيَّة احتاج للرَّد على عديد التساؤلات ومُواجهة سَيل غامرٍ مِن شُكوك، أما إن مَرَّ بأزمَةٍ عاطفية؛ فمما يُحبّذ الوِحدَة والانعزال، طمعًا في الهُروب من الإجابات.
• • •
يحمل الشَّخص المأزوم همًّا لا يكاد يفارقه، يذكره كلّ لحظة ولا يتمَكَّن من تجاوز وطأته. ينام ويغفو وهو يفكر فيه، يأكل ويشرب بينما تتوارد إلى مُخيلته التفصيلات، وتتوالد منها افتراضات واحتمالات بلا أول ولا آخر؛ فتمنعه من الإحساس براحَة أو سَعادة أو حُرية؛ الأزمة تقيده والغمُّ يُثقِل رُوحَه ويُنهكها.
• • •
صناعةُ الأزمة فنٌّ، بَعضُ الناس يمكنهم ابتكارَ أزمَات مُختلفة دون أن يكون لها أصلٌ أو مَنبَت؛ تبرز إذ فجأة وكأنهم ينشئونها من فراغ أو يستولدونها من العَدم. هؤلاء لهم قدرةٌ عجيبةٌ على اختلاق أمور لم تحدث وسَرد أقاصيص وَهمية؛ وهم في نهاية الأمر مُعتقدون في صِحَّة ما لديهم، متأكدون من براءتهم.
• • •
عادة ما يقول الناسُ تعبيرًا عن انزياح الغُمَّة واستتباب الأمور: أزمَة وعدت. تراجَع استخدامُ هذه العبارةِ في الآونة الأخيرة، فالأزمات تتصاعد وتتوالى، لا تنجلي إحداها أو تمضي بسلام، بل تتنحى قليلًا مع اندفاع أخرى إلى سُدَّة المشهَد، فتنشغل بها الجُّموع وتُسقِط ما سِواها؛ لكن التناسي لا يؤدي إلا إلى أزماتٍ أكبر وأشد. غلاءُ الأسعار وتدهوُر قيمة العُملة المَحلية وارتفاع مُعدَّلات التضخُّم أزمة، انهيار الثقافة والتعليم.
• • •
تكاثرت في الآونة الأخيرة أنباءٌ عن أزماتٍ قلبية حادَّة تصيب أشخاصًا في مَرحلة الشَّباب؛ بعضهم يتمكن من النجاة ويرحل آخرون تاركين حَسرةً عميقة في قلوب المحيطين بهم. يُقال إن الضُّغوطَ المُتواصِلة تُرهِق الجسد وتَجعله أقلَّ مُقاوَمةً للمُشكلات المَرضِيَّة، وإن المَرءَ ما بات في كَرب وغمّ؛ ضَعفَت مناعته واضطرب ضخُّ الدماء في شرايينه وربما سقط لهذه التطوُّرات عليلًا، والحقُّ أن الأحوال المعيشية تحوَّلت إلى معاناة مُتصلة لا تنقطع أسبابها، وأن كثيرين يتهاوون تحت الضَّربات المتتالية، ولا ينفكون يستلهمون القوْلَ المأثور المَنسوب لقصيدة من قصائد بن النحوي: «اشتدي يا أزمة تنفرجي».
• • •
يُشير تعبير أزمَة العقول إلى نُدرة هؤلاء القادرين على التعامُل مع مُعطيات الواقع بمهارة وفطنة، وعلى استخدام المَنطق في وَضع تصوُّرات مُستقبلية فيها من الحِكمَة والحَصافة وبُعد النَّظر ما يؤشر على النجاح. على المنوال ذاته يأتي تعبير أزمَة الكفاءات؛ إذ يشير إلى غياب هؤلاء المتمتعين بمهارة مشهودة في مجالاتهم.
• • •
تأزَّم الأمر أيّ تعقَّد وصَعُب إيجاد مَخرج له. بَعض الأزمات يصنعها المرء لنفسه ثم يمضي باحثًا عن الحل، ضاربًا كفًا بكف؛ فيما كان باستطاعته تجنبها. أزماتٌ أخرى يتجاهلها صاحبُها ويهوِّنها إلى أن تزولَ من تلقاء نفسها، وما بين هذا وذاك طيفٌ من الخِصال يُميِّز كلَّ شخص ويلوِّن حياته.
• • •
الأزمات العالميَّة كثيرةٌ مُتشعِّبة، فمِن حُكَّام تتمتَّع أفعالُهم بدرجة غير خافِية من الرُّعونة، إلى تغيُّرات في التحالفات المُعتادة بين الأقطاب المتآلفة والمُتصارعة، إلى تطرُّف مُحقَّق في توجُّهات بعض الجماعات السِياسيَّة الناشئة، بالإضافة لاضطرابات بيئيَّة جَمَّة وأمراض وأوبئة عابرة.