بعد نشر أى تقرير دولى عن أوضاع حقوق الإنسان فى مصر تخرج نفس الأصوات بنفس الشعارات ونفس النعرات ونفس التشنجات ونفس ردود الفعل بلا أى تغيير يذكر ! لم يكن التقرير الأخير الذى صدر عن مؤسسة «هيومان رايتس ووتش» بخصوص أوضاع حقوق الإنسان فى مصر والذى حمل انتقادات وتنديدات بشأن ظروف الاحتجاز والتحقيق والسجن لبعض المتهمين والمدانيين هو التقرير الأول ولن يكون الأخير!
هنا تطرح أربعة أسئلة من قبل المعترضين: الأول، لماذا تنتقد هذه التقارير «المشبوهة» الملف المصرى بينما لا تلتفت لملفات أخرى مثل الملف التركى أو الإسرائيلى أو الأمريكى؟ يهدف هذا السؤال إلى التلميح إلى عدم حيادية التقارير وربما استهدافها مصر على وجه الخصوص ! السؤال الثانى: هل ما ورد فى هذه التحقيقات صحيح أم أنه مؤامرة للإيقاع بمصر وتشويه صورتها دوليا وإقليميا؟ ويلمح هذا السؤال إلى فبركة المعلومات الواردة بشأن الملف المصرى بهدف الضرر بمصر وسمعتها أو الإيقاع بها دوليا، بينما يأتى التساؤل الثالث حول الهدف الحقيقى من هذه التقارير ومن هو المستفيد منها؟! وكذا فهذا السؤال يثير مسألة استخدام التقارير الحقوقية الدولية كأداة ابتزاز سياسية تهدف إلى ما هو أبعد من مجرد الدفاع عن أوضاع حقوق الإنسان ! وأخيرا هناك السؤال المتعلق بالسبب الرئيسى الذى لا يجعل هذه التقارير تلتفت «للظروف الاستثنائية» التى تمر بها مصر ولماذا لا يتم الالتفات إلى العمليات الإرهابية المنظمة التى ترتكب ضد مصر؟ وهذا سؤال يرتبط باتهام مباشر لهذه التقارير بازدواجية المعايير والمساواة بين عنف الدولة وعنف الإرهابيين، ففى حين لا يتم إدانة الأخير ويتم إدانة الأول!.
الحقيقة أن السياسة علمتنى أنه لا يوجد شىء مستبعد، وبالتالى فكل الاحتمالات تظل قائمة فى الإجابة على هذه الأسئلة، المهم هو البرهان والدليل دائما لإثبات صحة أى فرضية سياسية عن هذه التقارير وغيرها، كما علمتنى السياسة أنه لا يوجد عمل بشرى متكامل، أو ملائكى، فسواء كنا نتحرك على المستوى الفردى أو الجماعى، غير الرسمى أو المؤسسى، فهناك دوافع ذاتية وهناك ثقافة للعمل وهناك حسابات أخرى قد تكون بريئة وقد لا تكون ! ولكن فى تقديرى أن السؤال الأهم الذى يجب أن يطرح هو من أجل من يجب أن نهتم بالملف الحقوقى؟ هل نحن نريد مجرد «تستيف» الأوراق، أو إرضاء قوى دولية أو إقليمية هنا أو هناك؟
أم أنه يجب أن تكون هناك أسباب أكثر قوة توجب الاهتمام بالملف الحقوقى المصرى؟!
***
قبل الإجابة على تساؤلى الرئيسى، دعنا نقوم بتقديم إجابات مختصرة بخصوص أسئلة المعترضين.
فى الإجابة على السؤال الأول، فليس حقيقى على الإطلاق أن هذه التقارير تقتصر على الملف المصرى ! بل إنها تكاد تقوم بعملية مسح شامل لملفات كل الدول تقريبا الشرقية منها والغربية، الديمقراطية منها والسلطوية. فبالإضافة للتقرير المصرى، هناك تقارير خرجت خلال هذا العام وتناولت الملف التركى تحديدا وركزت على عمليات الاحتجاز غير القانونى والانتهاكات التى وصفها التقرير بـ«الجسيمة» وخصوصا بعد محاولة الانقلاب الفاشلة فى يوليو ٢٠١٦. ومن يقرأ هذه التقارير ــ وكلها متاحة على موقع المنظمة المذكورة بأكثر من لغة بينها العربية ــ يجدها تتناول تفاصيل متعددة بخصوص إجراءات وزارة الداخلية التركية وغيرها من الأجهزة الأمنية فى الاعتقالات والاحتجاز والمعاملة غير الآدمية، مع تحميل النظام السياسى مسئوليتها.. إلخ وبالتالى فلا أعرف تحديدا من أين جاء هذه الافتراض عن أن هذه التقارير تتناول الحالة المصرية فقط؟ بل تناولت التقارير أيضا الانتهاكات الإسرائيلية بخصوص الفلسلطينيين، بل وتناولت بالتعليق والنقد الملفات الحقوقية فى الولايات المتحدة الأمريكية على خلفية استخدام العنف غير المبرر ضد أصحاب البشرة السمراء والمهاجرين وغيرهم، وكذا هو الحال فى بريطانيا وفرنسا! الفارق الوحيد هو أن السلطات فى مثل هذه الدول المذكورة أخيرا ــ باستثناء تركيا وإسرائيل ــ تتعاون مع فرق التوثيق والتحقيق، ومن هنا فالتقرير تجده مثلا فى الحالة الأمريكية يتناول رد الحكومة أو جهات التحقيق على ما تبديه المنظمة من ملاحظات بخصوص ملفات الاعتقال والاحتجاز لمن هم دون الـ٢١ عاما أو ملف قتل بعض القصر من ذوى البشرة السمراء.. إلخ.
***
فى الإجابة على السؤال الثانى، فإننا نحتاج ببساطة إلى عملية شفافة من التحقيق حتى يمكن أن نتوصل إلى ما إذا كانت التقارير دقيقة أم لا ! كيف فى ظل عملية تعوزها الشفافية والصراحة يمكننى أن أجزم بصحة التقرير وما ورد فيه من عدمه؟ كيف حينما أجد الرد من مؤسسات الدولة هو عبارة عن عملية تجميلية فجة فى إحدى الصحف تتناول صور لمساجين يقرأون فى المكتبة ويتناولون أطيب الأطعمة وكأننا فى فندق فئة الخمسة نجوم وليس فى سجن مصرى، أن أصدق السلطات؟ قد تكون التقارير الحقوقية بالفعل غير دقيقة أو حتى غير صحيحة أو لنقل مبالغ فيها وقد تكون صحيحة، فى النهاية من أين أتى بإجابة نزيهة طالما أن عملية التحقيق فى هذه التجاوزات المزعومة لا تتم بشفافية، بل ويتم الرد عليها بأسلوب تمثيلى ساذج؟! للأسف غياب الشفافية هو الذى يؤدى إلى غياب الثقة ومن ثم يميل كثيرون إلى تصديق هذه التقارير بغض النظر عن الدقة من عدمها!.
أما عن السؤال الثالث، فلا يمكن استبعاد استخدام الملفات الحقوقية فى ابتزاز بعض الدول أو فى تشويه سمعتها بالفعل، وكثيرا ما تم تسييس الكثير من الملفات الحقوقية مع بعض الدول غير المرضى عنها من القوى الدولية والإقليمية المهيمنة! لكن تعالوا نقف لبرهة ونتفق، هل بالفعل هناك انتهاكات حقوقية فى مصر أم لا؟ ثم مصر على الأقل الآن مرضى عنها من معظم القوى الدولية والإقليمية فعملية الاستهداف هنا مستعبدة الآن على الأقل ! وإذا ما ألمح البعض إلى المناقشات الأمريكية الأخيرة سواء فى الكونجرس الأمريكى أو الإدارة الأمريكية بخصوص قطع جزء من المعونة، فهذا مرتبط بنقاشات متراكمة يعلمها القاصى والدانى بخصوص الملف الحقوقى المصرى منذ ٢٠١٣ ولم ينتظر أحد التقرير الأخير تحديدا ليستخدمه لمعاقبة مصر!.
أما عن السؤال الرابع والأخير، فإن الإجابة ترتبط ببساطة بالتفرقة بين الدول وغيرها من الجماعات المسلحة (الإرهابية)، ففى حين أن امتلاك الأخيرة للسلاح واستخدامه بغير سند من القانون هو عمل مجرم بالطبيعة ولا يحتاج لتقارير من الأصل لمناقشة تفاصيله لأن جرمه محسوم منذ البداية، فإن الحديث عن الأولى يختلف كثيرا، لأن المبدأ الثابت أن الدول وحدها دون غيرها هى من تمتلك «الحق الحصرى فى استخدام وسائل العنف»، بشرط أن يكون هذا الاستخدام بسند من القانون والدستور، وبالتالى فليس صحيح على الإطلاق أن هذه التقارير تدعم الإرهاب فى مصر أو تسكت عنه، فقط هى لا تساوى بين مصر الدولة، وبين غيرها من الجماعات الإرهابية، بينما تتساءل عن ماهية استخدام الدولة المصرية للعنف وما إذا كان بسند من القانون والدستور أم لا!.
***
بينما أجيب على هذه الأسئلة جميعا، فإنى أعود لتساؤلى الذى أدعى أنه الأهم، لماذا أصلا يجب أن نهتم فى مصر بالملف الحقوقى؟! هذا هو المسكوت عنه فى القضية كلها! هب أن هذه التقارير لم تصدر أصلا، أو لنفترض جدلا أنها مسيسة، أو أنها مدعومة من قوى شريرة تريد الإيقاع بمصر، فماذا فعلت مصر من أجل ملفها الحقوقى؟ الحقيقة التى يرتضيها ضميرى أن هناك جهات عدة عملت على تحسين الملف الحقوقى المصرى منها المجلس القومى لحقوق الإنسان الذى لعب أدوارا أشهد أنها كانت متميزة ــ على خلافى مع بعض أعضائه واستعجابى من بعض التقارير أو التصريحات الذى تصدر عن رئيسه تحديدا ــ ومنها اللجنة الرئاسية التى عملت على الإفراج عن دفعات متتالية من المعتقلين، ومنها أيضا بعض الشخصيات العامة المحسوبة على النظام لكنى أيضا أشهد أنها تستجيب للشكاوى وتحاول هنا وهناك ! هذا كله أمر محمود لا ريب، لكننا ما زلنا بعيدا، بل وبعيدا جدا ! هناك قضايا كثيرة مؤلمة، ملف العلاج الطبى لبعض المسجونيين ما زال محل تساؤل كبير، ملف الحبس الاحتياطى برمته أصبح مخجلا، ظروف الحبس والتحقيق وما ينتج عنه من شبهات تنتهى عادة بوفاة بعض المحبوسين تعوزها المزيد من الشفافية فى التحقيقات والمحاسبة، ما زلنا نتساءل عن سبب وجود البعض فى السجون وعن إمكانية الإفراج عن البعض الآخر! كل هذا نطرحه من أجل مصر ومن أجل شعبها، فالملف الحقوقى لا تقل أهميته عن أى ملف آخر، حقوق المواطن المصرى هى ضمانة التنمية الحقيقة المستدامة لا تنمية الحجر والتراب ! حقوق المواطن المصرى هى السلاح الأقوى فى محاربة الإرهاب، هى ضمانة الإصلاح الاقتصادى وحجر أساس الإصلاح السياسى، حقوق المواطن المصرى هى باختصار الهيبة الحقيقة لهذا الوطن، فلندع كل هذه الضوضاء جانبا، ونتساءل: هل نحن راضون عن حقوق الإنسان المصرى؟ لا يهم أن تجيب أمام الجماهير أو الكاميرات، لا تنشغل كثيرا بالتبريرات والحجج، فقط أغلق فمك واترك ضميرك ليجيبك بوضوح!.