تهديدات بوتين النووية وسقوط مفهوم الأمن العالمى
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الجمعة 23 سبتمبر 2022 - 6:55 م
بتوقيت القاهرة
نحن أمام عالم معاصر ملىء بالمخاطر نواجه به كارثة التغير المناخى وتداعياتها الكثيرة وجائحة كورونا وآثارها الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة خلال العامين الماضيين والحرب الروسية على أوكرانيا التى دفع بها فلاديمير بوتين بتهديده باستخدام الأسلحة النووية إلى مستوى مرعب من المخاطر العالمية وكأن أزمات الأمن الغذائى وإمدادات الطاقة وارتفاعات الأسعار ليست بكافية.
وفى العلوم الاجتماعية تتعدد مقاربات قراءة المخاطر المحيطة بعالمنا المعاصر وأسبابها ونتائجها وسبل التعامل معها، مقاربات تبدأ من إنكار الكوارث المناخية والصحية والسياسية المحيطة بنا وتنتهى عند الترويج لنظريات نهاية العالم وفناء البشر. وبين حدى الإنكار والمبالغة، تتوفر العلوم الاجتماعية على مقاربات أكثر موضوعية من بينها مفهوم مجتمع المخاطر العالمية الذى طوره عالم الاجتماع الألمانى أولريش بك.
• • •
أنجز بك كتابه الأول عن مجتمع المخاطر فى بدايات النصف الثانى من الثمانينيات، تحديدا فى عام 1986. وأضفت كارثة المفاعل النووى تشيرنوبيل التى وقعت فى نفس العام بعدا شديد الواقعية على مقولات الكتاب الرئيسية.
ينطلق بك فى محاولته توصيف التغيرات الحادثة فى مجتمعات الغرب نهاية القرن العشرين من قناعة بأن الخطر وما يرتبط به من ظواهر كالتطرف والإرهاب والعنف قد أضحى المحرك الأساسى للبنى المجتمعية المعاصرة.
والمعنى المقصود ببساطة هو أن بنى المجتمع الصناعى وميكانزمات حركتها خاصة فى مجال التكنولوجيا وعلاقات العمل والاقتصاد والاستهلاك والعملية الاتصالية قد أضحت مصدرا دائما لتحديات غير مسبوقة وعنف غير معهود من جهة ويصعب إدارتها فى إطار آليات السيطرة والأمن المعهودة من شاكلة نظم الرفاهة والضمانات الاجتماعية من جهة أخرى. وهنا الرابطة السببية بين التحولات المعاصرة التى تشهدها مجتمعاتنا وبين المخاطر المحيطة بنا، وبينها وبين ذيوع ظواهر التطرف والإرهاب التى أضحت تهدد حياة البشر.
قد يرى البعض أن بك ينطلق جملة وتفصيلا من تحليل يشكل واقع مجتمعات الشمال الغنية خاصة الأوروبية الغربية والأمريكية الشمالية إطاره المرجعى. وهو ما يجعل من التساؤل عن مدى عالمية مفهوم مجتمع المخاطر وما يرتبط به من ظواهر عنف أمرا مشروعا. والحقيقة أن بك لم يفصل كثيرا فى هذا الصدد واكتفى فى عدد من كتاباته التى تلت إرهاب الحادى عشر من سبتمبر 2001 بالتأكيد على تنوع المخاطر العالمية باختلاف الأطر المجتمعية وعلى أن العنف والإرهاب الدينى ذى الطابع الأيديولوجى يجسد وجود مجتمع المخاطر العالمى.
أما السمات المميزة لمجتمع المخاطر فيراها بك تتطور فى مرحلتين متتاليتين. المرحلة الأولى هى مرحلة تكرر الصدمات المتعلقة بخروج العنف والإرهاب والحروب والكوارث التكنولوجية والمناخية عن السيطرة مع غياب وعى الحكومات والنخب السياسية بالطابع الجديد لتلك الصدمات والمخاطر المرتبطة بها. ولذلك تواصل الحكومات والنخب التعامل مع الأمر بالأسلوب المألوف على أنها تعبير عن ظواهر هامشية يمكن السيطرة عليها وتحجيمها.
ثم تبدأ مرحلة ثانية يختفى بها وهم السيطرة حيث تظهر بجلاء محدودية قدرة أبنية المجتمعات المعاصرة على إدارة المخاطر ومن ثم تصبح ظواهر العنف والإرهاب والحروب والكوارث التكنولوجية والبيئية قضية الأغلبيات وتهيمن على حياة الأفراد الذين ترتفع معدلات قلقهم الوجودى من قادم الأيام وعلى ساحات النقاش العام.
• • •
تدريجيا، يرى بك أن الحكومات والنخب السياسية تدرك أهمية التعامل مع المخاطر العالمية وتسعى من خلال استراتيجيات متعددة لإطالة عمر المؤسسات الرئيسية فى المجال الاقتصادى والاجتماعى والسياسى وحمايتها من خطر التفكك منتجة بذلك لشعور عام بوجود مساحات للفعل والتخطيط والسياسة العامة ما زالت قادرة على الحد من المخاطر. إلا أن الأمر ما يلبث أن ينقلب إلى النقيض مع تكرر الصدمات والأزمات وخروج العنف والإرهاب والحروب عن السيطرة على نحو يجعل من الحكومات والنخب السياسية المتهم الأول بالإخفاق فى نظر الأغلبيات الخائفة.
ومن ثم يأتى تعريف بك الذى رحل عن عالمنا من سنوات لمفهوم مجتمع المخاطر ليحدد النقطة الزمنية والمكانية التى يمكن معها افتراض وجوده: يبدأ مجتمع المخاطر منذ اللحظة التى تعجز بها منظومات القيم المجتمعية الضامنة للأمن عن القيام بدورها إزاء الصدمات والأزمات والأخطار المحيطة بالبشرية المعاصرة. ويعنى غياب الأمن، وهو الأمر الذى يعمق منه اليوم عالميا التغير المناخى وتدفع به إلى واجهة النقاش العام فى كل مكان تداعيات وتقلبات الحرب الروسية على أوكرانيا، إخفاق الحكومات والنخب فى تحقيق الوعد المبدئى للسياسة، خلق ظروف حياتية آمنة للمجتمعات المعاصرة من خلال السيطرة على الطبيعة واستغلال مواردها لصناعة التقدم المستدام والحيلولة دون تكرر الكوارث التكنولوجية والبيئية.
وفى سقوط الوعد بالأمن والتقدم وفى حقيقة أن حياتنا المعاصرة تحيط بها المخاطر من كل صوب وحدب، فيهما جوهر اللحظة الراهنة التى تواجه بها البشرية خطر الحرب النووية بفعل تقلبات الحرب الروسية على أوكرانيا ويغيب عن شعوبها أمن الغذاء والطاقة وتعانى خلالها من تراجع حاد فى معدلات النمو الاقتصادى والاستقرار الاجتماعى بعد عامين من عصف جائحة كورونا بالعالم وتستفيق بها الحكومات والنخب ومجموعات المواطنين على تداعيات مرعبة للتغير المناخى.
• • •
فى عالم أفكار أولريش بك الذى بدأ فى الثلث الأخير من القرن العشرين وامتد إلى السنوات الأخيرة، لا يقتصر سقوط الوعد بالأمن والتقدم على رمزية كارثة انفجار مفاعل تشيرنوبيل فى ١٩٨٦ أو انفجارات المفاعل النووى فوكوشيما فى اليابان فى ٢٠١١، بل يمتد إلى انتفاء القدرة على السيطرة على العنف والإرهاب وخروج الحروب المعاصرة عن الحدود المعهودة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية فى ١٩٤٥.
وهنا تحديدا يقع المغزى العالمى للحرب الروسية على أوكرانيا وتهديدات فلاديمير بوتين باستخدام الأسلحة النووية لاقتطاع أجزاء من الأراضى الأوكرانية وقطع إمدادات الطاقة عن أوروبا والعقوبات الغربية العنيفة على روسيا، وفى كل ذلك خروج بيّن عن حدود حروب ما بعد ١٩٤٥.