«من ضلع أعوج».. امرأة سئمت الهروب!
محمود عبد الشكور
آخر تحديث:
السبت 23 سبتمبر 2023 - 8:55 م
بتوقيت القاهرة
تبدو أى رواية ممتازة، تُنصف المرأة، وتنقل معاناتها فى مجتمعاتٍ تقليدية مغلقة، وتمنحها حرية الفعل، ولو على الورق، عملًا فنيًّا إنسانيًّا، قبل أن تكون أدبًا منحازًا أو نسويًّا، ويكتسب العمل أهميةً إضافية إذا كتبه مؤلف كبير، يتأمل البيئة التى جاء منها، ويناقش تلك الأفكار التى تحكم هذه البيئة، وينطلق بذكاء من الخاص، إلى العام والإنسانى.
تمر السنوات مثلًا، وتبقى لهذه الرواية، التى صدرت فى العام 1970 أهميتها وقيمتها الأدبية، خصوصًا من تلك الزاوية التى تحدثتُ عنها، بل لعل هذه الرواية تبدو اليوم معاصرة تمامًا، ومعبرة عن أوضاع لم تتغير، ويمكنها أيضًا أن تصنع فيلمًا عظيمًا.
«من ضلع أعوج» للروائى الصومالى نور الدين فرح، والتى ترجمها تقىّ حامد، والصادرة عن «عصير الكتب»، تمتلك حتى اليوم جرأتها، وقوة أسئلتها، وخطورة نموذجها الإنسانى والأنثوى، الذى تمثله إبلا بطلة الرواية، والتى هربت من قريتها الصغيرة الفقيرة، وهى فى سن الثامنة عشرة، إلى مدينة أكبر (بلدوين)، لأنها لا تريد أن تتزوج من اختاره لها جدها، ثم هربت من بلدوين إلى العاصمة مقديشيو، مع من اختارته للزواج، ولكنها كانت دومًا فى صراع مستمر، لكى تتحرر من مكانة متدنية وضعت فيها المرأة.
ظلت إبلا تتخبط بين الصواب والخطأ، ولكنها لم تعد أبدًا ابنة المجتمع المغلق، الذى أرادوا أن يضعوها فيه، ولن تعود أبدًا إلى ما عاشته من حصار وأهوال، وإلى ما اعتبره البعض قدرًا مفروضًا، يستلزم الخضوع.
نور الدين فرح أحد أكبر الروائيين فى أفريقيا، وروايته هذه فازت بجائزة نيوستاد الدولية للأدب، وقد قرأتُ له من قبل رواية مترجمة بديعة بعنوان «خرائط»، رسم فيها باقتدار مأساة امرأة عجوز هذه المرة تدعى مسرا، يتهمونها بالتواطؤ مع الإثيوبيين، الذين يحاربون الصومال، والرواية تستعرض علاقة مسرا بابنها عسكر، الذى تبنته وربّته، والذى يعانى، بدوره، صراعًا بين حبه وولائه لأمه البديلة، وبين حبه لبلده، الذى اتهمت أمه بالتواطؤ ضده.
لا مثيل لقدرة نور الدين فرح على التعبير عن محنة المرأة فى مجتمع يراها كائنًا هامشيا، حتى لو كانت أمًّا، ومثلما كانت مسرا بريئة ومدانة فى نفس الوقت، فإن إبلا تبدو أيضًا بريئة، وبلا أى خبرات على الإطلاق، ولا تكاد تتعامل إلا مع الحيوانات التى ترعاها، ولكنها تسأل طوال الوقت عن أسباب هذه التفرقة منذ الصغر، والتى تهب الماعز للطفلة الأنثى، بينما تهب الأبقار للطفل الذكر، والتى تكرر طوال الوقت أن المرأة مخلوقة من ضلع أعوج، إذا أراد الرجل تقويمه انكسر.
فقدت إبلا الأم والأب، ولم يبق لها إلا جدها وأخوها الأصغر، والجد اختار لها عريسًا عجوزًا مقابل الحصول على الإبل، فلم تجد إبلا وسيلة للرفض إلا بالهرب. فى بلدوين لن تتحسن الأمور كثيرًا، لأن من عملت عنده كخادمة لزوجته، أراد أن يتخلص من ديونه بتزويجها لعجوزٍ جديد، فاختارت أن تهرب مع أويل، الشاب الذى أعجبها.
لكن فرح لا يأخذ حكاية هروب إبلا من مكان إلى آخر مستقلة عن زمنها الدال، لأن أحداث الرواية تتواكب مع الأيام الأخيرة للاحتلال، وترتبط بفترة ما قبل إعلان الاستقلال، وكأن رحلة إبلا المتخبطة للاستقلال، متصلة بزمن استقلال بلدها، وهى رحلة صعبة على كلا المستويين، للفرد وللبلد أيضًا، لأنها تعبّر عن مخاض شاق وعسير.
فتاة لم تتعلم، ولا تملك إلا تمردها، كيف يمكن أن تعيش حياتها؟ وهل تغيير المكان يحل مشكلتها بينما تظل المشكلة الأكبر داخل العقول؟ كيف يمكن أن تنضج هذه الطفلة التى لم تكن قد شاهدت سيارة، والتى كانت تعتقد أن داخل الإنسان آلات وماكينات تهضم الطعام؟ كيف يمكن أن تختار دون خطأ؟ وهل تستطيع أن تتوقف عن الهرب وأن تجد إجابات لأسئلتها؟
صعوبة بناء الرواية فى أن نشعر كلما تقدمنا عبر فصولها أن إبلا تنتقل إلى حياة أكثر تعقيدًا، دون تقديم صورة مثالية أو خارقة عنها، بل إن صراعًا عنيفا يدور داخلها عندما تتزوج على زوجها أويل، الذى غاب فى بعثة للدراسة فى إيطاليا، وخانها مع فتاة بيضاء، أرادت أن تنتقم منه، وأن تقول إنها قادرة على الفعل والتمرد فى حده الأقصى، ولكنها تشعر بالتخبط، وتعانى من المرض، تدرك أن الاختيار ليس سهلًا، وإن كان من المستحيل أن تتراجع، أو أن تهرب من جديد، وكما تقول لنفسها، فإن الهروب مرة أخرى، يعنى أن تذهب إلى المحيط، وهى لن تفعل ذلك على الإطلاق.
إبلا تقارن نفسها بالأبقار، التى تُباع وتشترى، والجاهزة للذبح فى أى وقت، ولكنها قررت أن تكون إنسانة، حتى لو أخطأت، ومؤلف الرواية يطرح على لسانها أسئلة تعيد التفكير فى عادات وتقاليد بالية، وفى تفسيرات ذكورية للنصوص المقدسة، ويظل الاختيار الخطأ أفضل، رغم كل شىء، من الحياة بلا إرادة أو هدف.
الرجال فى الرواية يتميزون بالأنانية، ولا يُعتمد عليهم: الجد، الذى أحب إبلا، لم يرها مع ذلك إلا جارية لا يؤخذ رأيها إذا طلبها رجل عجوز للزواج، وشقيق إبلا سيعود بعد لقائها فى مقديشيو إلى قريته، لأنه لم يتحمل مجتمع العاصمة، وأويل، وقد أحب إبلا وتزوجها، لم يتردد فى أن يقيم علاقة مع فتاة بيضاء لتمضية الوقت، ولم ينتظر أن يتم الزواج من إبلا فى اليوم التالى، ولكنه قضى شهوته فى ليلة وصولهما إلى العاصمة، والرجل الذى خدمت عنده إبلا، لم يتردد فى محاولة تزويجها، لمن يساعده فى أزمته المالية.
لا تغلق الرواية أقواسها، وإنما تتركنا فى نهايةٍ مفتوحة لنتخيل شكل المواجهة بين إبلا وزوجها العائد أويل. لم تعد كما كانت، فقد صارت امرأة تمتلك إرادتها، ولن تهرب أبدًا من مواجهة أقدارها وظروفها.