النمو الاقتصادي مع تحسين توزيع الدخول
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 23 سبتمبر 2024 - 7:05 م
بتوقيت القاهرة
النمو الاقتصادى الذى يمكن قياسه بنمو الناتج المحلى الإجمالى لأى دولة، هو ما يشغل مجموعة كبيرة من الاقتصاديين لدى تناول المشكلة الاقتصادية، لكن وحدهم المهتمون بالتنمية الشاملة المستدامة هم الذين يبحثون عن توزيع ثمار النمو بشكل أقرب إلى العدالة، وعن المساحة المشتركة بين السياسة والاقتصاد التى ترقبها الحكومات لاتخاذ سياسات محققة لتلك العدالة فى التوزيع. ولأن الكثير من الإنتاج الفكرى لاقتصاديى التخطيط والتنمية، قد اتصل برباط مع بعض التجارب الاشتراكية أو تلك التى استلهمت من النظرية الماركسية أساسًا للتوزيع، فقد أهملت حصيلة فكرية اقتصادية معتبرة، ولم يعد هناك بد من إعادة التعرّف عليها فى ظل التحوّلات العنيفة التى يشهدها الاقتصاد العالمى.
فى إحدى المحاولات الرائدة لتناول معضلة التنمية الاقتصادية عام 1974 قدّم الاقتصادى الأمريكى الشهير «هوليس تشينيرى» وآخرون دراسة مشتركة تحت عنوان «إعادة التوزيع مع النمو: سياسات تحسين توزيع الدخل فى البلدان النامية فى سياق النمو الاقتصادى» تحمل فى ثناياها رؤية مهمة للسياسات التى يمكن من خلالها لحكومات الدول النامية، العمل على توزيع الدخل بشكل أفضل أثناء تحقيق النمو الاقتصادى.
الكتاب الذى خرج فى 13 فصلًا يعرض فى الفصول الثمانية الأولى تصورًا لإعادة توجيه السياسات، بينما يقدّم فى الفصول الخمسة الأخيرة مدخلًا كميًا لتحليل البيانات وبناء النماذج القياسية، فى حين خصصت الملاحق لاستعراض خبرات دول نامية مؤثرة، هى: الهند، وكوبا، وتنزانيا، وسريلانكا، وكوريا الجنوبية، وتايوان، وذلك فى سياق إعادة توزيع الدخول مع النمو. يستخلص الكتاب من تجارب التنمية فى الدول المشار إليها وغيرها، أن العقد الأول للتنمية يتمتع بخاصية نمو الناتج القومى الإجمالى بمعدلات تفوق توقعات صنّاع السياسات. ومع إهمال الساسة للتوزيع العادل للدخول فإن نحو من ثلث سكان الدول النامية لن يشعر بأية مزايا للنمو الاقتصادى. لذا يجيب الكتاب، الصادر منذ نصف قرن، على تساؤلات ما زالت تتردد اليوم عن إمكانية تحقيق معدلات نمو مرتفعة، مع تحسين توزيع الدخول، وماهية السياسات المطلوبة لمواجهة التحديات المرتبطة بالنمو والتوزيع الكفء لثماره.
• • •
الفصل الرابع من الكتاب يتناول طبيعة السياسات التى يمكن أن تتدخّل بها الحكومات لتحسين توزيع الدخول، والتى يمكن حصرها فى ستة مجالات للتدخّل، هى: سوق عوامل الإنتاج (خاصة العمل ورأس المال)، ملكية والسيطرة على الأصول، ضرائب الدخل والثروة، إتاحة السلع الاستهلاكية العامة، التدخل الحكومى فى سوق السلع والخدمات، ومستوى التكنولوجيا فى الدولة. ويرى المؤلفون أن مرونة الدخل فى سوق العمل منخفضة فى الدول النامية ومن ثم لا يجوز التعويل على استخدام أجر العمل كمحفّز لزيادة التشغيل والإنتاج، إذ إن تخفيض الأجور لزيادة أعداد العاملين لن يؤدى إلا إلى مزيد من الإفقار للقوى العاملة، وإلى هروب العقول النابهة. وعوضًا عن ذلك يفضّل اللجوء إلى زيادة تكلفة رأس المال، لحفز أرباب العمل على زيادة توظيف العمالة، حيث تنخفّض تكلفتها نسبيًا مع زيادة تكلفة رأس المال. يدعو الكتاب إلى تدخّل الحكومات للحفاظ على أسعار السلع الأساسية عند مستويات منخفضة، لافتًا إلى مخاطر ذلك على الإنتاج المحلى الذى يتقلّص لصالح المنتجات المستوردة، وفى حال الاستيراد يتناول بدائل تحمّل الدعم وتوزيع أعبائه بين الحكومة والقادرين. فى سياق السياسات المقترحة أيضًا يقدّم الكتاب رؤية للضرائب التصاعدية وإعادة توزيع الأصول وتخصيص الاستثمارات، كبدائل ناجعة لتحسين توزيع الدخول فى الاقتصادات النامية، دون تأثير سلبى على معدلات النمو وجاذبية السوق للاستثمار المحلى والأجنبى.
الفصول الثلاثة التالية تناول مؤلفوها تشكيل استراتيجية التنمية على نحو يحقق الآثار الإيجابية لإعادة توزيع الدخول والثروات. ولا يمكن صياغة الاستراتيجية بعيدًا عن التعريف الدقيق للفئات المستهدفة فى الريف والحضر. التعرّف على الفئات المستهدفة يساعد على رسم خريطة واضحة لتدفّق أثر السياسات بين المجموعات المختلفة داخل المجتمع. فى القطاع الريفى مثلًا يفضّل أن يكون الائتمان مكلّفًا وغير مدعوم، لأن الائتمان المؤسسى يذهب إلى طبقة ملّاك الأراضى وليس للمزارعين. كذلك يجب تصميم السياسات المعنية بالقطاعات الحضرية على نحو يدعم صغار المستثمرين والمشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر، بحيث لا يتسرّب الدعم إلى فئات غير مستحقة. فى هذا السياق نستحضر تجربة حديثة للبنك المركزى المصرى بتقديم قروض ميسرة للقطاع الصناعى بفائدة مدعومة، أثبتت المسوح أنها لم تصل إلى مستحقيها، وحصل عليها كبار المقترضين الذين يتمتعون بملاءة مالية تدعم مراكزهم المدينة أمام المصارف.
كذلك يقدّم الفصل التاسع من الكتاب الأبعاد الدولية لمعضلة انعدام المساواة مؤكدًا على فكرة مؤدّاها أن استيراد التكنولوجيا من الدول الغنية، يخلق اتجاهًا متزايدًا بالدول النامية لمحاكاة نمط الدخل والاستهلاك والإنتاج بالدول النامية، وهذا الاتجاه يصعب التخلّص منه، وإن كان من الممكن الاستعانة بمؤسسات دولية لإنفاذ سياسات إعادة التوزيع بما يحقق قدرًا من العدالة بتلك الدول. لكن الشاهد أن تدخّل مؤسسات التمويل الدولية والإقليمية عبر السنوات التالية على نشر هذا الكتاب، لم يكن فى غالبية الأحوال فى صالح الدول النامية، بل بالعكس فقد ساعد على استيراد نمط تنموى غربى، ساهمت السياسات الداعمة له فى اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء فى المجتمعات التى تمر بمراحل تنموية بدائية أو متعثّرة.
• • •
وإذا كانت الحكومة المصرية قد وجدت نفسها فى موقف المتلقى لعدد من الضربات المحلية والإقليمية، فإن التعامل مع تلك الصدمات يجب ألا يلفتنا عن المسار التنموى المنضبط الذى آن لنا أن نحدده ونتمسّك به، حتى وإن اعترضه الصعوبات. والكتاب المشار إليه هو نموذج لدليل اقتصادى أتمنى أن يقرأه فريق العمل الحكومى المعنى برسم الاستراتيجية التنموية خلال العقود الثلاثة المقبلة، لربما استخلصوا منه ما يمكن أن نضع به أقدامنا على مسارنا الصحيح الذى أشار إليه السيد رئيس مجلس الوزراء فى غير موضع.
التجارب التنموية التى سبق تناولها فى مقالات عدة بالشروق، ومنها تجربة الصين والتجربة الكورية وتجربة بولندا.. يصح أن نستكملها بالمرور سريعًا على أبرز ملامح التجربة السنغافورية الرائدة فى التنمية. يقول الدكتور جوه كينج سوى (الذى يعرف بكونه مهندس التنمية الاقتصادية الناجحة فى دولة سنغافورة منذ استقلالها فى عام 1965) فى مقدمة كتاب «اقتصاديات التحديث ومقالات أخرى» الذى نشره فى عام 1972: «إذا كان من الممكن استخدام تجربتنا كدليل عام للسياسة فى الدول النامية الأخرى، فإن الدرس هو أن نظام المشروعات الحرة، إذا تمت صيانته بشكل صحيح والتعامل معه بمهارة، يمكن أن يكون بمثابة أداة قوية ومتعددة الاستخدامات للنمو الاقتصادى».
والدكتور «سوى» كان نائبًا لرئيس حزب العمل الشعبى، وشغل مناصب وزير المالية، ووزير الدفاع، ووزير التعليم ثم أصبح نائبًا أول لرئيس الوزراء من عام 1973 إلى عام 1984. وقد حدد ستة تدابير أساسية لتشجيع التنمية الصناعية فى سنغافورة. وهى: توفير البنية الأساسية، وحماية التعريفات الجمركية، والحوافز الضريبية، وتوفير العمالة المدربة، والحفاظ على السلام الصناعى واستقرار الأجور، وتشجيع الادخار. لقد أدى الاستثمار المباشر الأجنبى الذى تدفّق إلى سنغافورة نتيجة للتدابير التى اتخذها جوه كينج سوى، فى وقت لاحق، استنادًا إلى إيمانه العميق بأن الشركات متعددة الجنسيات يمكن أن توفّر بديلًا لروّاد الأعمال لتحقيق نمو الصادرات الصناعية، وهو الاتجاه الذى ثبتت صحته لتحسين أداء الصادرات المصنعة فى كل من ماليزيا وتايلاند فى السنوات الأخيرة.
كاتب ومحلل اقتصادى