تفجير جدران الأمان الهشَّة
بسمة عبد العزيز
آخر تحديث:
الإثنين 23 سبتمبر 2024 - 7:05 م
بتوقيت القاهرة
فى لحظات قِصار، تحولت أجهزة الاتصالات التى يحملها آلاف الأشخاص فى أيديهم إلى أدوات قتل. انفجرت محدثة إصابات عديدة، مخلفة عددًا من الوفيات، معلنة حال الطوارئ فى المستشفيات، مُحقِّقة هزَّة واضحة فى دوائر السياسة والحكم وأجهزة ومؤسسات الدفاع.
عملية التفجير من بُعد لها صور متعددة، والإشارات التى يمكن إرسالها والتحكم فيها ليست اختراعًا وليد اللحظة، ولا عجب أن تتوفَّر الأدوات اللازمة وإمكانات التنفيذ؛ لأجهزة استخباراتية وعسكرية ذات باع. من الناحية العلمية يبدو الأمر مُمكنًا بل يسيرًا؛ لا يقع فى إطار الخيال المبهر، ولا يتطلب تقدمًا تقنيًا هائلًا أو تفوقًا عقليًا خارج الحدود المتعارف عليها فى الوقت الراهن.
الفاعل مَعروف؛ وهو لا يُنكِر ما دبَّر وارتكب، وهؤلاء الأفراد الذين تم استهدافهم يدخلون فى دائرة التوقعات الانتقامية والمبادرات الهجومية والاحترازية، ويشاركون ولا شك كأطراف رئيسة فى معادلة الفعل ورد الفعل. الحرب جارية لم تتوقف لحظة والمنخرطون فيها محددون شمالًا وجنوبًا، الحلفاء ظاهرون والأعداء أغلبهم كذلك؛ كيان غاصب لا شرعية لوجوده مدعوم من معظم حكومات الغرب، ومقاومون يدافعون عن وجودهم إزاء اعتداءات متوالية.
ما المفزع هذه المرة إذًا، ولماذا أحدثت التفجيرات هزَّة كبرى فى شتّى الأنحاء؟ لماذا تبدى استهداف الإسرائيليين لمقاتلى حزب الله على هذه الصورة عملًا صادمًا على المستويين المحلى والدولى؟ ثمة أسباب مفهومة تتعلق بالمباغتة وتوسيع النطاق، وأخرى ذات طبيعة معنوية وأخلاقية.
أولًا؛ يمكن القول بأن تحويل العادى المألوف والآمن أيضًا إلى مصدر إيذاء جسيم؛ لهو أمر مخيف، وأن نقل أداة البطش من الرشاش والقنبلة والدبابة أو الطائرة، إلى جهاز محمول قابع فى جيب أو حقيبة مواطن ما؛ إنما يمثل هدمًا مباشرًا لعوامل الأمان التقليدية؛ فالمرء يتوقع الأذى من مدفع مصوب ناحيته؛ لكن ذهنه يرتبك ما اختل معيار التمييز.
إن تفخيخ جهاز اتصال واسع الانتشار يدفع بوجه عام إلى حال من التوجُّس إزاء ممارسات وطقوس معيشية لا حصر لها؛ قد تصبح بين عشية وضحاها مصدرًا محتملًا للتأذى. لا يتعلق الموقف إذًا بخطورة الفعل من الناحية المادية الملموسة؛ إنما باستباحة زرع الفزع الدائم فى نفوس الأشخاص العاديين؛ من أى جنس وعرق وموطن، وهو ما يستدعى مُسائلة أخلاقية أكيدة؛ حتى وإن تراجعت الضوابط الحاكمة على خلفية حروب غير متكافئة ولا مشروعة.
ثانيا؛ اختصرت التفجيرات تلك المسافة الكائنة بين المشاهدة وإمكانية المشاركة، وبذا أسقطت الجدار الرابع؛ فالأعين التى استفاقت منذ بداية حرب السابع من أكتوبر على جرائم وحشية تجرى على مبعدة منها؛ قد استشعرت التهديد المباشر الذى يمكن أن يطالها فى لحظة غادرة من حيث لا تحتسب. جاء التهديد مروعًا؛ رغم أنه حاضر طيلة الوقت، لا يوجد ما يمنعه من الناحية العملية. تمثل المانع الوحيد فيما جرت به الأعراف سابقًا، وما اقتضته بقايا الأصول المرعية التى ظنت الشعوب فى فاعليتها؛ وقد انهار هذا المانع وتردى، وكشف عن احتمالات مؤرقة؛ إذ ما من شك فى وجود أميال فاصلة بين الممكنات التى يدركها العقل، وبين حدوثها الفعلى وتجسدها على الأرض.
يذكر التاريخ تفخيخ لعب الأطفال، والمعلبات الغذائية، وبعض الأغراض الطبيعية التى لا يحذر الشخص العادى التعامل معها، ولا يسعى للتحقق من سلامتها قبل أن يقترب منها. تسجل الصفحات السوداء انفجارات فى الوجوه والأيدى، سببت تشوهات هائلة وأزهقت عديد الأرواح؛ وإذ تأتى تصنيفها آنذاك كجرائم غير مقبولة؛ فإن حكومات الحقبة الراهنة قادرة لشديد الأسى على استيعاب ما فى حكمها، واعتماده كمناورات حربية مشروعة.
أخيرًا؛ يمكن القول بأن جدران الأمان المتوهمة التى اعتقد الناس فى قدرتها على حمايتهم، قد تبدت فى الأيام الأخيرة رقيقة هشة؛ بل ظهرت فيها صدوع واضحة، تشى بإمكانية وقوعهم ضمن قائمة الضحايا، دون تورط فعلى فى معركة قائمة. لا يتعلق الأمر بالقدرة التدميرية التى يمتلكها المعتدى، بل باجتراءه على خرق ما استقر فى الأذهان من قواعد مُتوافق عليها.