ممَ يخاف المسيحيون العرب؟
محمد السماك
آخر تحديث:
الأحد 23 أكتوبر 2011 - 9:00 ص
بتوقيت القاهرة
هناك ادعاء بأن ما بات يُعرف بـ«الربيع العربى» سوف ينعكس سلبا على أوضاع مسيحيى الشرق. وهناك ادعاء معاكس يقول إن المسيحيين الذين كانوا أساسا فى الحضارة العربية ــ الإسلامية، وفى النهضة العربية الحديثة، وفى مقاومة الاستعمار الأجنبى والاحتلال الصهيونى، لا يمكن إلا أن يكونوا أساسا أيضا فى الربيع العربى، وتاليا، لابد أن ينعكس ذلك خيرا عليهم. فأى الادعاءان هو الصحيح؟
لا تنطلق المخاوف المسيحية من فراغ. هناك أسباب مبررة لها. بعض هذه الأسباب واقعى. وهو يتمثل فى المأساة البشعة التى حلت بالمسيحيين العراقيين على نطاق واسع. كما يتمثل فى المأساة الأقل بشاعة التى حلت بالمسيحيين المصريين على نطاق أضيق.
فى الحالة العراقية جاء التغيير من الخارج. وفى الحالة المصرية جاء التغيير من الداخل. وفى الحالتين لم ينجُ المسيحيون من بعض تداعياتهما السلبية. لقد هدمت كنائس ودمرت بيوت، وقتل رهبان وشردت عائلات أشورية وكلدانية، سريانية وكاثوليكية، على نحو لم يعرفه العراق منذ استقلاله عن بريطانيا. لم تساعد الاضطرابات الطائفية فى مصر على محو صورة المأساة العراقية، ولا حتى على التخفيف من وقعها. حمل المهاجرون المسيحيون العراقيون وقائع مؤلمة عن معاناتهم إلى إخوانهم فى سوريا ولبنان والأردن. كان طبيعيا أن يتسلل الخوف إلى قلوب هؤلاء أيضا. وبدلا من أن يتساءلوا: ماذا نستطيع أن نفعل لمساعدتهم، غلب عليهم التساؤل: متى يحين دورنا؟ ولما انفجرت الأحداث فى سوريا كان طبيعيا أن يتساءلوا: هل حان دورنا؟
مع تضخم الأحداث فى سوريا، تضخمت علامة الاستفهام. وزاد فى تضخمها غياب أى تحرك إسلامى على المستوى العربى لتبديد هذه المخاوف. كل ما حدث هو صدور بيان من هنا، وتصريح من هناك يستخف بهذه المخاوف، ويطعن بمبرراتها. غير أن الخائف من الظلام لا يطمئنه سوى النور.
●●●
حاول الأزهر الشريف أن يضىء شمعة عندما أصدر وثيقته التى قال فيها بالدولة الوطنية لا الدينية. وبالمساواة بين المواطنين، وباحترام حقوق الإنسان والحريات العامة. ولكن ظلام البيانات والتصريحات الأخرى التى تحاول استخراج رفات الذميّة وهى رميم، أرخى بكلكله فوق مناطق «الربيع العربى»، فلم تعد الأولوية لدى المسيحيين تنشق أزهار هذا الربيع التى تعبق بنسائم الحرية، ولم يعد همّهم أن تتفتح هذه الأزهار ليعمّ أريجها المنطقة كلها، ولكن همّهم انصبّ على كيفية إعادة طمر هذه الرفات فى غياهب الماضى بكل ما تحمله من ذكريات أليمة، وبكل ما تثيره من مخاوف على الكرامة الإنسانية. ومن هنا كان يفترض أن ينطلق موقف المسلمين ليس من أجل طمأنة مواطنيهم المسيحيين فقط، ولكن من أجل تأكيد فك الارتباط بين الإسلام كعقيدة، وبين الذمية كنظام سياسى ــ اجتماعى اعتمده حكام مسلمون فى مرحلة زمنية غابرة.
لم تكن صيغة المواطنة معتمدة أو معروفة فى ذلك الوقت فى دول متعددة الأديان والأجناس. ثم أسىء استخدام هذا النظام فى مرحلة التقهقر والانحطاط، خاصة فى أواخر العهد العثمانى. وبلغت قمة الإساءة عندما انفجرت حرب التحرير اليونانية ضد الاحتلال التركى، فتحول الصراع التركى ــ اليونانى إلى صراع تركى ــ أرثوذكسى، ومن ثم إلى صراع ضد مسيحيى الشرق، حيث فرض عليهم اللباس الأسود والعمائم السوداء، وسواها من الإجراءات لتمييزهم عن بقية المواطنين. لم يفرض العرب تلك الإجراءات. ولم يكن لفرضها أساس فى الاسلام. فرضها الأتراك ولأسباب سياسية انتقامية، فحمل وزرها الإسلام ظلما وافتئاتا. ولا يزال حتى اليوم.
●●●
فالقاعدة النبوية لعلاقة المسلمين بالمسيحيين فى الدولة الواحدة هى: «لهم ما لنا وعليهم ما علينا». وهذه القاعدة تترجم بالمساواة فى المواطنة. وهى ليست مشروطة بالمساواة فى العدد، لأن الحق قيمة انسانية مطلقة، وهو غير مرتبط بنسبية الأعداد.
ولكن إذا كان هناك تقصير من المسلمين فى التوافق على الجهر بهذه المبادئ الكلية، فإن هناك تقصيرا من المسيحيين فى التوافق على الجهر بالموقف الدينى والأخلاقى والوطنى من «الربيع العربى». ولعل بعض السبب فى ذلك يعود إلى الواقع غير السليم وغير الصحى الذى يمر به مجلس كنائس الشرق الأوسط الذى يفترض أن يمثل كل كنائس الشرق، وأن ينطق باسم مسيحيى الشرق جميعا.
أدى هذا الواقع إلى تعدد مواقف كنائس الشرق، وحتى إلى تعدد المواقف داخل الكنيسة الواحدة، الأمر الذى أثار حالة من الإرباك الشديد. فالمجلس إن لم يكن موجودا، فإن الظروف الراهنة وما يرافقها من تداعيات ومخاوف تتطلب إيجاده. ومما يؤكد ضرورة ذلك، إدراك الكنائس نفسها، كذلك الدول الغربية الراغبة فى مد يد العون إلى مسيحيى الشرق، بالحاجة إلى آلية صالحة وجامعة للعمل من خلالها. ولكن هناك ما يثير مخاوف مبررة من احتمالات سوء تفسير مبادرة من هذا النوع وتصويرها وكأنها تربط مسيحيى الشرق بالغرب.. وتاليا بسياسة الغرب وطموحاته وأطماعه التاريخية. وإذا حدث ذلك نتيجة خطأ ما، فإنه قد يؤدى إلى عكس النتائج التى ينشدها مسيحيو الشرق ويتعاطف معها مسلموه. وذلك بتكريس خطأ الاعتقاد بأن مسيحيى الشرق هم امتداد للغرب. وهو خطأ ألحق فى الماضى أفدح الأضرار بالعلاقات الإسلامية ــ المسيحية، وبمبدأ حقوق المواطنة وبالتطلعات المشروعة نحو الدولة المدنية. إن أى تصرف يوفر صدقية مجانية لهذا الاعتقاد الخاطئ، ولو بصورة غيرة مقصودة من شأنه أن يعمق من هوة التباينات القائمة حاليا، وذلك بإضافة مخاوف إسلامية إلى المخاوف المسيحية.
من هنا الحاجة، فى إطار «الربيع العربى» العام إلى ربيع مسيحى خاص، يعيد الصدقية المسيحية المشرقية والعربية القومية، إلى مجلس كنائس الشرق الأوسط ليتمكن المجلس من ملء فراغ التحدث باسم المسيحيين جميعا، وليستأنف تاليا دوره البناء فى الحوار المسيحى ــ الإسلامى.
●●●
ثمة سلبيتين إسلامية ومسيحية لابد من تفكيكهما. تتمثل السلبية الإسلامية فى تضخم ــ أو فى تضخيم ــ الحضور السياسى الإسلامى فى أساس حركات «الربيع العربى». أما السلبية المسيحية فانها تتمثل فى غياب ــ أو فى تغييب ــ مجلس كنائس الشرق الأوسط بصفته الناطق الشرعى باسم مسيحيى الشرق. تؤجج حالة اللاتوازن هذه بين الحضور ــ أو الاستحضار ــ الإسلامى المبالغ فيه، وبين الانكفاء ــ أو الاستغناء ــ المسيحى المبالغ فيه أيضا، من مشاعر الخوف المسيحى، ومن مشاعر الخوف الإسلامى من هذا الخوف.
فالخوف يؤسس للاثقة. ومن المستحيل أن يقوم عيش واحد أو حتى عيش مشترك على قاعدة الخوف واللاثقة.