«الأنا» الجديدة
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 23 أكتوبر 2013 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
تغيرت علاقتنا بالصورة الفوتوغرافية. كانت تذهب إلى الحكومة ملتصقة باستمارة امتحان، أو طلب التحاق، أو استخراج شهادة تَخَرُّج وبطاقة شخصية ورخصة قيادة وجواز سفر. كانت أحياناً، وإذا أتقن المصور عمله واهتم الواحد منا بهيئته، تذهب مع رسالة حب بخط اليد إلى شخص مُعَيَّن لا تراها إلا عيناه ولا تلمسها إلا يداه لتبقى سراً صغيراً بيننا. كان إخفاء الصورة عن أعين الفضوليين، ومنهم أهلنا، شغلنا الشاغل. كانت سراً بريئاً نحفظه ونعود إليه لنُجَدِّد الوعد ونصنع الحُلم.
بمعنى آخر كانت الصورة الفوتوغرافية الشخصية ضرورية للارتباط بعلاقة مع السلطة، ومرغوبة للارتباط بعلاقة مع شخص نحب.
●●●
كانت الصورة فى غالب الأحوال وقورة. كانت موضوعية ومحايدة. لم نكن نتبادلها كما يتبادلونها الآن؛ واسطة للتعريف كبطاقة الزيارة. أذكر أننا كنا فى سن المراهقة نقنع أنفسنا أن الصورة التى بين أيدينا لمن نحب، إنما التُقِطَت خصيصاً مِن أجلنا. نرى فى العينين شوقاً ولوعة وعلى الشفتين ابتسامة ورغبة. نسينا وقتها أن الصورة التقطها مصور محترف وربما أمام زبائن آخرين، فلا المكان ولا اللحظة يسمحان لصاحبة الصورة بأن ترسم ابتسامة على شفتيها أو تسبل عينيها كرسائل لن يفهمها ويحل ألغازها إلا العزيز الغالى الذى سترسل إليه الصورة. حرفان من اسمه أو اسمها كانا كافيين لتذكير مَن سيحتفظ بالصورة بأهمية إخفائها عن أنظار المتطفلين والغيورين والحاسدين. كانت الصورة سراً بين اثنين وليس مِن حَقِّ طرف ثالث أن يفرض نفسه مُستفيداً أو مُستمتعاً بجمال هذا الوجه، أو كمال هذا الجسد.
●●●
لفت نظرى منذ أيام مقالٌ فى مجلة التعليم العالى الأمريكية، يتحدث فيه كاتبه عن كلمة صارت دارجة فى اللغة العامية الأمريكية حتى أن واحداً من أشهر القواميس أدرجها مفردة من مفرداته، وأن نقاشاً مثيراً يدور الآن بسببها. الكلمة هى selfie وقد انتشرت فى مصر أيضاً بين قطاعات من الشباب.
يدور النقاش بشأن تلك الكلمة حول مسألة أعتقد أنها تستحق الاهتمام ليس فقط فى أمريكا ومجتمعات الغرب، بل أيضا هنا فى مصر وغيرها من بلاد الشرق الأوسط. قيل فى النقاش إن جيل الألفية؛ أى الجيل الجديد، متعطش بشكل يثير الشفقة أحياناً إلى التدليل والرعاية والعاطفة، إلى حد أنه يلجأ الى ابتكار أساليب وحيل ليدلل نفسه بنفسه، وأنه استخدم التكنولوجيا الحديثة مثل instamatic ,snapshot ليلتقط الصور لنفسه وبنفسه ودون الاستعانة بخبير أو متخصص. يختار الوضع والموقع والمساحيق والملابس التى ربما امتنع عن اختيارها لو كان بالغرفة مصور محترف، ويختار من أساليب الاتصال الحديثة ما يسمح له بأن ينشر هذه الصورة التى تفنن فى التقاطها بنفسه لينشرها على أوسع نطاق.
بهذه الصور دخل الجيل الجديد بيوتاً لم يعرفها ليثير فى كل بيت منها مشاعر ورغبات شتى. الصورة الشخصية التى كانت تذهب بطرق بدائية إلى بيت بعينه لتختفى تحت الكراريس والمذكرات فيراها ويتغنى بجمال صاحبتها أو صاحبها فرد واحد، صارت الآن على شاشة يشاهدها الآلاف بأحاسيس متباينة. ليس كل واحد أو واحدة من هذه الآلاف يحمل بين ضلوعه قلباً طيباً وحانياً.
●●●
الجديد الذى تقدمه التكنولوجيا منذ أن اخترع ستيف جوبس جهاز آى فون 4 هو أن الشخص منا يستطيع تصوير نفسه بنفسه وفى أى مكان يختار وفى أى ساعة من ساعات النهار أو الليل بسهولة وبجودة فائقة. الجديد أيضاً هو أن هذه الصورة وعشرات مثلها ليست من أجل إسعاد حبيب بعينه. هى صور لكل الناس، صور من أجل توسيع دائرة المعارف لهدف سياسى أو لترويج خدمات تجارية أو للصالح المدنى العام، وقد تكون أيضا من أجل إطفاء الظمأ إلى الاهتمام وتعويض «النقص» فى الحب وإشباع الطمع فى العاطفة.
قيل إن بعض هواة نشر الصور إنما يشعرون بأن واجبهم إسعاد الآخرين وبخاصة فى أوقات الأزمات. يبعثون أو يبعثن بالصور المتغيرة دوماً لتخفيف آلام الملل. المؤلم والمثير لقلق شديد هو أن عدداً غير قليل من المنحرفين جنسياً استطاع بفضل هذه التكنولوجيا تصوير نفسه فى أوضاع غير أخلاقية انتهت بأحدهم وهو المرشح عمدة لمدينة نيويورك، وبآخرين فى الصين وأوروبا إلى الفضيحة والاتهام بالتغرير بالفتيات أو بالإتجار فيهن. غير خاف أيضاً تلك الزيادة الهائلة فى الجرائم العنكبوتية الناتجة عن الثورة فى نشر الصور الشخصية على أوسع نطاق.
●●●
«الأنا»، وكلنا نعرف قيمة هذا الضمير والمخاطر الناجمة عن تضخمه أو سوء استخدامه، تغيرت مكانتها لدى الكثيرين مِن بنات وأبناء جيل الألفية، وبشكل خاص جيل الثورة المصرية. يبدو أن «الأنا» لم تعد تقابل مِن اهتمام الأهل والأصحاب والرفاق ما تظن أنها تستحقه فى هذه الظروف التى شهدت أو دفعت إلى تألق الجيل بأسره. لمعت أسماءٌ لمعاناً مبهراً، بعضها خاف على لمعانه أن يخبو أو ينطفئ كما حدث فعلاً للكثيرين مِن أقرانه، فلجأ الى الصورة يلتقط العشرات بل المئات منها لنفسه وبنفسه مبدلاً ومغيراً فى مواصفاته ما استطاع، ويبعث بها الى عشرات الألوف، وما لم تُحَقِّقه الصورة الفورية والمتغيرة من تعاطف وعطف واعتراف حاولت أن تحققه شاشات التليفزيون عبر برامج الكلام. المهم أن تظهر الصورة وأن تتغير وأن تكشف عن أحلى السمات.. إن وجدت.
●●●
محل «الأنا» الوديعة الهادئة الباحثة عن صدر يحضنها ويحميها، ظهرت «الأنا» النهمة وفى ثناياها «أنا» غير واثقة من نفسها ومن قدرتها على التأثير فيما حولها.