الناخب الاستراتيجى فى مصر
محمد المنشاوي
آخر تحديث:
الجمعة 23 أكتوبر 2015 - 10:10 ص
بتوقيت القاهرة
انشغلت شاشات التليفزيونات المصرية المختلفة بعرض آراء ما يطلق عليهم خبراء استراتيجيين فى القضايا المختلفة سواء تلك، التى تتعلق بالشأن المحلى أو القضايا الدولية. ويطلق بعض هؤلاء الخبراء سهامهم وسمومهم غير مبالين بأى معايير علمية أو معرفية أو أخلاقية، وبالطبع مثَل موسم الانتخابات البرلمانية المصرية، والذى بدأ الأسبوع الماضى الفرصة ليزداد ظهور هؤلاء الخبراء وتتضاعف معدلات ظهورهم على الشاشات المختلفة.
ويسىء بعض هؤلاء الخبراء أولا لأنفسهم، ويسيئون ثانيا للمؤسسات التى انتموا إليها وعملوا بها يوما ما، وهذه المؤسسات فى معظمها أجهزة سيادية أو جهات عسكرية أو أمنية. وتبارى بعض الخبراء الاستراتيجيون فى تفسير ما شهدته المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية خاصة عزوف قطاعات كبيرة من الناخبين عن التصويت. وأنتقد الخبراء الناخبين والمواطنين المصريين، اتهموهم بالكسل، أو بالانشغال فى مشاهدة أفلام خليعة أو قضائهم ساعات فى تدخين الشيشة.
إلا أن هذه التفسيرات لم تقترب من جوهر المشكلة المتمثل فى كون الناخب المصرى يعد «ناخبا استراتيجيا» له حساباته التى قد لا يفهمها هؤلاء ممن لا يستحقون لا لقب خبراء ولا صفة استراتيجيين.
•••
أصبح المواطن المصرى ناخبا استراتيجيا لا تؤثر فيه دعوات الترهيب أو الترغيب. ولم تستطيع القيادة السياسية ولا النخبة التى تدعمها من ناحية، ولا الأحزاب السياسية الموجودة حاليا على الساحة من ناحية أخرى أن تخدعه. ولم يلبى الناخب المصرى نداء الرئيس السيسى الذى طالب جميع المصريين رجالا ونساء بالتصويت، مؤكدا أن مجلس النواب القادم يعكس أمام العالم أجمع إرادة المصريين فى استكمال خريطة الطريق. وخص السيسى الشباب المصرى، قائلاً: «أدعو المصريين إلى الاحتشاد فى الانتخابات البرلمانية من أجل مستقبل أفضل، أدعو شباب مصر ليكون فى طليعة يوم الاقتراع لحسم الأمر لصالح الوطن». من جانبهم قام رجال الدين الإسلامى والمسيحى بحث المواطنين على المشاركة فى الانتخابات. وخرج الدكتور نصر فريد واصل، مفتى الجمهورية الأسبق، يحذر فى فتوى له من مقاطعة الانتخابات، مؤكدا أن من يمتنع عن أداء صوته الانتخابى يكون آثما شرعا. وذكر الدكتور عبدالله النجار، عضو مجلس البحوث الإسلامية، أن المشاركة فى انتخابات مجلس الشعب 2015 واختيار نواب البرلمان واجب شرعى مثله مثل فرض الصلاة، وأن تاركه كمن ترك تأدية صلاته الواجبة عليه. من ناحيته دعا البابا تواضروس الثانى بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية الناخبين المصريين للمشاركة، قائلاً: «إحنا بنركز على تشجيع كل مصرى مسلم أو مسيحى أن يشارك فى الانتخابات.. صوتك أمانة وقوة».
•••
لم يتوقع الناخب الاستراتيجى إلا الاكتساح الكبير للمرشحين المؤيدين للرئيس السيسى، وأدرك كذلك أن من يطلق عليهم مرشحين مستقلين الآن سينضمون لأحد الائتلافات المؤيدة للرئيس والمسيطرة على المجلس لاحقا. وعلى الرغم من وجود حزب النور السلفى وسط قوائم المشاركين، إلا أنه أيضا حزبا مؤيدا للرئيس السيسى، ولا يمثل معارضة.
وعلى الرغم من امتلاك البرلمان المقبل صلاحيات أوسع من كل ما سبقه من مؤسسات تشريعية من حيث وضع سياسات الدولة والموازنة، وتمتعه بصلاحية الموافقة أو الاعتراض على أى رئيس وزراء يعينه الرئيس، وكذلك إمكانية الموافقة على اقتراح بسحب الثقة من الرئيس نفسه بأغلبية ثلثى الأعضاء، فإن الناخب الاستراتيجى فضل أن يبتعد عن عملية التصويت، وهو ما جعل هذه الانتخابات تعد من الأقل من حيث نسب المشاركة.
•••
أدرك الناخب الاستراتيجى أن واقعا جديدا يشير إلى عدم وجود معارضة حقيقية فعالة للنظام السياسى الذى يسيطر عليه الرئيس. أدرك كذلك أن أهم أدوار البرلمان الجديد سيتمثل فى الموافقة التلقائية على سياسات الرئيس وعلى أكثر من 300 مرسوم رئاسى أدار بها السيسى ومن قبله عدلى منصور البلاد فى ظل عدم وجود برلمان منذ الثالث من يوليو 2013. وخلال مقابلة صحفية لرئيس قائمة تحالف (فى حب مصر) اللواء سامح سيف اليزل، وردا على سؤال حول نص الدستور على ضرورة أن يوافق البرلمان على القوانين التى سنها الرئيس أو يرفضها فى غضون أسبوعين فقط من بدء انعقاده، قال اليزل: «أنا شايف أن هذا مستحيل.. 15 يوما لـ300 قانون.. صعب. وأنا وجهة نظرى أننا نوافق على القوانين، ثم نناقشها بعد ذلك«! ولم يحتاج الناخب الاستراتيجى لأكثر من هذا الحوار ليتأكد من قيمة وأهمية البرلمان المقبل».
•••
أدرك الناخب الاستراتيجى أن السياسة الحقيقية تغييب عن مصر، وأن التمتع بحياة سياسية مزدهرة ذات انتخابات حرة لا تُقصى أحد ولا تُعرف نتائجها مسبقا، أصبح بمثابة أحلام. جاءت انتخابات برلمان 2015 فى ظل تراجع غير مسبوق فى سجلات حريات التعبير وحريات التجمع وحريات الاعتراض. ويدرك الناخب الاستراتيجى أن مخرجات هذه الانتخابات لن تحيد عن برلمان مستأنس أمنيا يضم ائتلافات مؤيدة للسيسى سواء من المستقلين أو من المؤيدين، إضافة للجزر الصغيرة من الأحزاب الكارتونية الباقية، إضافة لوجوه فاسدة من عهد الرئيس السابق مبارك.
•••
يدرك الناخب الاستراتيجى أن مشاركته فى ثورة 25 يناير هدفت بالأساس ليس لإسقاط الرئيس السابق حسنى مبارك فقط، بل هدفت لتغيير نمط العلاقة المنظمة بين الحاكمين والمحكومين، وآمن الناخب الاستراتيجى أن الانتخابات الجارية لا تخدم هدفه النبيل، بل تهدف لضمان سيطرة نمط كارثى على الحكم من خلال وجوه قديمة ثار الشعب عليها، وذلك من خلال آلية انتخابية مُتحكم فيها ولا تمثل كل المصريين. لم يقاطع الناخب الاستراتيجى المصرى استجابة لنداءات وجهتها عدد من القوى السياسية وبعض الأحزاب القريبة من جماعة الإخوان المسلمين، بل تعامل مع الانتخابات من خلال إحساسه بعدم جدواها بغض النظر عن الأسباب والتفاصيل، والتى ينشغل بالتنظير فيها هؤلاء من يطلق عليهم «خبراء استراتيجيين».