متحف بدون حب
صحافة عربية
آخر تحديث:
الجمعة 23 أكتوبر 2015 - 9:55 ص
بتوقيت القاهرة
كم هى ضيفة عين ماهيش شارما وزير الثقافة الهندى. إنه يستكثر على نهرو أن يكون له متحف من طابقين فى دلهى. وهو يريد تقليص المساحة المخصصة لأشهر رئيس للوزراء فى تاريخ البلاد، ويرى أن هناك رجالاً آخرين كان لهم دورهم فى استقلال الهند. وعليه فلابد من زجهم فى متحف نهرو. كأن تلك الدولة التى تزيد مساحتها على 3 ملايين كيلو متر مربع، لا تجد بقعة لتشييد متحف لرجالات التاريخ. أو كأن الوزير لا يعرف أن من بين المليار وربع المليار هندى يوجد نهرو واحد. هل قلت رجالات؟ أعتذر من نساء الهند العظيمات وأتساءل: هل كان نهرو هو أشهر رؤساء الوزارات أم ابنته إنديرا؟
قاد الزعيم حزب المؤتمر بلاده نحو الاستقلال. مرجل يغلى بالأقوام واللغات والعقائد والشعوذات. فالهند كانت جوهرة التاج البريطانى يوم كانت بريطانيا إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس. ثم ذهب شاب مولود فى الله آباد ودرس فى كمبردج، وتعلم كيف يخاطب الإنجليز بلغتهم وببلاغته. كان ينطق باسم مئات الملايين من فقراء شعبه، وله من العزم ما سد عليه طريق التراجع حتى رفرف العلم الوطنى فوق سوارى الهند. ومن شوقهم لدولة مستقلة، لم يصبر الهنود فرفعوا رايتهم الجديدة قبل 24 يوما من الإعلان الرسمى للاستقلال، منتصف أغسطس 1947.
فى احتفال أقيم بمناسبة الذكرى الستين لانبثاق حركة عدم الانحياز، ألقى وزير خارجية الهند خطابا لم يأتِ فيه على ذكر اسم نهرو. من يخاف من الزعيم الذى حفظنا صوره مع عبدالناصر وسوكارنو وشو إنلاى؟ إن الوزير الهندى يطالب بإضاءة أسماء أخرى من أبطال الاستقلال، مثل سبهاش شاندرا. وهو مقاتل لم يكن متنعا بجدوى المقاومة السلمية التى آمن بها نهرو ومن قبله غاندى، فشكل جيشا صغيرا من الهنود تحالف مع اليابانيين فى الحرب العالمية الثانية. وهناك قوميون هندوس، يسعى الوزير للإعلاء من ذكراهم و(تطهير) الخطاب العام من التأثيرات الغربية وإعادة الاعتبار للثقافات المحلية. ويبدو أن متحف نهرو سيكون أو ضحايا التطهير.
لم يظهر المتحف بعد رحيل نهرو. فالمبنى الأبيض كان مسكنا لرئيس الوزراء منذ الاستقلال وحتى نهاية حياته. وهو يضم الأرشيف الوطنى الهندى إلى جانب تراث نهرو من صور وخطابات وهدايا. وما زال سريره موجودا فى غرفة النوم. وكذلك مكتبته. وعلى المكتب ورقة بيضاء يستقر فوقها قلمه الحبر ذو الريشة. هل جاءت تلك الورقة من الدفتر الذى خط عليه رسائله الكثيرة لمحبوبته إدفينا؟
فى واحدة من أشهر صوره، وهو رئيس للوزراء، يبدو جواهر لال نهرو (1889 – 1964) معتمرا سدارة بيضاء، دافعا اثنين من أصابع يده اليمنى فى تجويف خده وفى عينيه شبهة حزن. هل كان يفكر فيها ويعرف أنها ستنال نسختها الممضاة من الصورة الرسمية، وتتمعن فيها وتناجيها وستحفظها فى صندوق الرسائل؟ حكاية تزدرى بكل ما فى الأفلام الهندية من مآسٍ ودموع. حب يائس جمع بين زوجة اللورد لويس مونتباتن، الحاكم البريطانى للهند، وبين السياسى الذى سينتزع استقلالها من براثن خصمه القوى. ولما حاولت هوليوود تحويل القصة إلى فيلم سينمائى، لقيت ممانعة من الحكومة الهندية. وجرت مفاوضات لحذف مشاهد القبلات من السيناريو. ولم يرَ الفيلم النور.
بعد الاستقلال، عادت الليدى إدفينا مع زوجها إلى لندن. وكان نهرو يزورها هناك، أو يرسل لها صناديق من المانجو، أو يكتب لها الرسائل التى يبث فيها شوقه لصحبتها، وما يعانيه من مشكلات فى إدارة بلد كبير حديث العهد بالحرية. إنها الصديقة والمستشارة والمرأة، التى خفق لها قلب أرمل أربعينى يحمل هموم قارة كاملة. أما قلبها فقد سكت فجأة وهى نائمة. ووجدوا تحت وسادتها آخر رسالة وصلتها من العاشق الهندى. ولم يكن اللورد مونتباتن غافلا لكنه آثر الحكمة على التهور. وكانت زوجته قد وضعت رسائل نهرو بين يديه، وقالت له إنها خطابات حب روحانى بين شخصين ربط بينهما تفاهم عز نظيره بين البشر. ولم يجرؤ الزوج على قراءة الرسائل، لكنه سلمها بعد رحيله، إلى ابنتهما التى قرأتها وطمأنته: (ليس فيها ما يشين).
كتب مونتباتن فى مذكراته أن زوجته طلبت أن (يكون البحر مرقدها الأخير). وقد نفذ الوصية. وفى جو صقيعى من نهار 25 فبراير 1960، أبحرت فرقاطة بريطانية من القاعدة البحرية فى بورتسموث تحمل نعش الرحالة. وكان على متنها، بالإضافة إلى الزوج، أسقف كانتربرى الذى تولى المراسم الدينية، ودوق أدنبره ممثلا عن الملكة، وقائد القاعدة وكبار ضباطها. ثم وصلت إلى عرض البحر باخرة تحمل علم الهند. وكان نهرو مريضا وغير قادر على السفر. ولعله لم يحتمل مضاضة الوداع. وعندما اصطدم خشب النعش بصفحة الموج، رمى ربان الباخرة الهندية باقة من أزاهير برتقالية وصفراء فى اللجة، أرسلها العاشق العجوز. أليس الأولى بوزير الثقافة الهندى أن يضم رسائل ذلك الحب إلى المتحف؟
إنعام كجه جى
الشرق الأوسط ــ لندن