لا أعلم ما إذا كان موضوع الاستثمار الأجنبى سيناقش باستفاضة فى المؤتمر الاقتصادى الذى دعا له السيد رئيس الجمهورية، والذى بدأ جلساته بالأمس، ولكن المتابع للشأن الاقتصادى فى مصر يعرف أن حكوماتنا المتعاقبة منذ بدء اتباع سياسة الانفتاح الاقتصادى فى سنة ١٩٧٤ تعلق جل آمالها فى دفع التنمية الاقتصادية فى مصر على النجاح فى اجتذاب قدر كبير من الاستثمارات الأجنبية يساعد على تغطية فجوة الموارد بين الادخار والاستثمار المحلى من ناحية ومقدار الاستثمار المطلوب من ناحية أخرى لرفع معدل النمو الاقتصادى على نحو يكفل توفير العمالة المنتجة لكل الداخلين فى سوق العمل، والتخفيف من حدة الفقر. ولذلك فمن المناسب التعرف على أسباب هذه الفجوة بين الادخار والاستثمار، وكيف يمكن للاستثمار الأجنبى أن يساهم فى تضييق هذه الفجوة بدلا من تعميقها وزيادة حجم المديونية بحيث يعقد من المشاكل التى أثارت الحاجة له بدلا من حلها، وأسترشد فى ذلك بتجارب الدول التى سبقت مصر بمراحل فى التعويل على الاستثمار الأجنبى لدفع معدلات نموها وخصوصا فى أمريكا اللاتينية ودول شرق وجنوب شرق آسيا. وأناقش باختصار أسباب فجوة الادخار والاستثمار، والمفاضلة بين أنماط التدفقات الخارجية الكفيلة بتضييق هذه الفجوة، والاختيارات المتاحة أمام الشركات المستثمرة الأجنبية، ومزايا ومخاطر الاستثمار الأجنبى.
أسباب فجوة الادخار والاستثمار
هل تعانى كل دول الجنوب من فجوة بين ما تولده من مدخرات وتعبئه للاستثمار من ناحية وما تحتاج إليه من استثمارات كلية من ناحية أخرى؟ يقال تفسيرا لذلك إن متوسط الدخل فى دول الجنوب منخفض، ومن ثم فما تستطيع تعبئته من مدخرات تحولها إلى استثمارات هو بالتالى منخفض. طبعا هذه المقولة تغفل أن سوء توزيع الدخل فى معظم دول الجنوب وانحياز حكوماتها لأصحاب الثروات الكبرى لا يمكنها من تعبئة المدخرات الممكنة والتى يجب ألا تأتى من الفقراء. وهى فى الحقيقة تفعل العكس، فتتغاضى عن أصحاب الثروات الكبيرة وتحمل أصحاب الدخول الصغيرة عبء الاستثمار من خلال ما تفرضه عليهم من ضرائب غير مباشرة أو بالتسعير الجبرى الأقل من القيمة لما ينتجونه خصوصا فى القطاع الزراعى. طبعا نعرف أن بعض دول الجنوب بفضل اقتصادها الريعى مثل الدول المنتجة والمصدرة للنفط وذات حجم السكان الصغير نسبيا استطاعت الاحتفاظ بقدر كبير من إيراداتها وتخصصه للاستثمار، وهذا بالطبع هو حال دول الخليج العربى. ولكن هناك دولا فقيرة نسبيا فى الجنوب واستطاعت بالفعل تحقيق معدلات ادخار عالية تصل إلى ثلث وربما خمس دخلها القومى مثل دول جنوب وشرق آسيا كالهند وكوريا الجنوبية ــ تاريخيا ــ والصين. كلها كانت ذات مستويات دخل منخفضة فى المتوسط حتى وقت قريب ولكنها تحقق أعلى معدلات الادخار والاستثمار فى العالم حتى فى ظل الأزمات الاقتصادية. هذه مسألة تستحق التفكير. هل يعود ذلك إلى نمط ثقافاتها التى تشجع على الادخار وتبتعد عن الإنفاق الاستهلاكى التفاخرى، أم يعود إلى دور الحكومات هناك؟ طبعا جدير بنا ــ ومعدل الادخار فى مصر لا يكاد يتجاوز ١٦٪ سنويا ومعظمه مدخرات خاصة ــ أن نتحرى أسباب نجاح هذه الدول فى تحقيق معدلات الادخار والاستثمار العالية هذه والتى تجعل نموها معتمدا بالدرجة الأكبر على استثماراتها المحلية وليس على ما تجتذبه من استثمارات أجنبية.
ولكن لا يمكن تناول أسباب هذه الأزمة دون أن يؤخذ فى الاعتبار ما تفعله حكومات تلك الدول أو أثرياؤها بما يتوافر لديهم من مدخرات قابلة للاستثمارات. بعض هذه الحكومات تبدد ما يتوافر لها من موارد محدودة فى الإنفاق بلا حساب على أجهزة الأمن أو القوات المسلحة تأمينا لحكامها حتى عندما لا تكون هناك أخطار خارجية، أو على مشروعات تفاخرية لا تضيف إلى قدرات البلاد الإنتاجية شيئا. يفعل أثرياء الدول النامية نفس الأمر، فبدلا من أن يخصصوا جانبا كبيرا من أموالهم لتنويع اقتصاد بلادهم بالاستثمار فى الصناعة التحويلية أو الخدمات الإنتاجية، يخصصون قدرا ضخما من مدخراتهم لمشروعات لا تخدم سوى الأغنياء مثل الأحياء أو المدن المسورة، أو يحولونها لحساباتهم فى بنوك أجنبية أو بشراء أوراق مالية فى أسواق المال الدولية فيما يعرف بظاهرة هرب رءوس الأموال، التى كادت تقترب من حجم المديونية الدولية فى بعض بلدان أمريكا الجنوبية وخصوصا المكسيك والبرازيل واللتين عانتا من أزمات اقتصادية متكررة، كان هروب رءوس أموال مواطنيها واحدا من أسبابها.
المفاضلة بين أنماط التدفقات الخارجية
من الناحية النظرية البحتة، أمام دول الجنوب العديد من المصادر الخارجية التى يمكن أن تلجأ لها لتغطية فجوة الموارد هذه حتى بافتراض نجاح سياساتها الداخلية فى وقف نزيف هروب رءوس الأموال، والتزامها بالرشادة فى توجيه استثماراتها، ومع ذلك تبقى فجوة الموارد هذه. أمامها أن تطلب المعونة الأجنبية سواء من دول لديها فوائض تسمح لها بتوجيه قدر منها لمعونات خارجية أو من مؤسسات دولية متعددة الأطراف تقدم معونة بشروط ميسرة. أمامها كذلك أن تسعى للحصول على قروض من البنوك التجارية الدولية وذلك بحسب معدلات الفائدة التى تقتضيها هذه البنوك، ويمكنها أيضا أن تعول على الاستثمارات الأجنبية.
المعونات الدولية الثنائية غالبا مشروطة ولكن مستوى المشروطية يتفاوت من طرف لآخر. الدول الكبرى الرأسمالية تضع شروطا اقتصادية وسياسية تتفق مع رؤيتها لما يجب أن تكون عليه التنمية. وهذا هو حال مؤسسات البنك الدولى. بعض الدول الصغيرة فى أوروبا مثل الدول الإسكندنافية فضلا عن كندا تتيح معوناتها من منطلقات إنسانية، ولذلك لا تحمل شروطا مقيدة سوى احترام حكومة الدولة المتلقية لحقوق الإنسان. ومنظمات الأمم المتحدة مثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائى ووكالات الأمم المتحدة المتخصصة مثل منظمة الأغذية والزراعة أو منظمة الصحة العالمية أو منظمة التنمية الصناعية كلها تقدم معونة غير مشروطة. وتنفرد الصين بأنها تقدم معونات سخية تبتعد عن شروط التنمية الرأسمالية التى تصر عليها الدول الغربية. كما أصبحت دول الخليج العربى من الدول التى تقدم معونات سخية، ولكنها تقدمها للدول التى تتفق معها فى مواقفها السياسية. وعموما ــ وباستثناء الصين ــ تفضل الدول الغربية أن تقدم معوناتها للدول منخفضة الدخل، ولم يعد ذلك حال مصر، ومن ثم فهى لا يمكنها أن تعول كثيرا على الحصول على معونات تيسيرية، أى تقدم فى صورة منح غير قابلة للرد، أو لا تشترط معدل فائدة عاليا، كما أن آجال سدادها تمتد لفترة طويلة، وبعضها يمكن سدادها إما بالعملة المحلية أو بصادرات من إنتاج الدول المتلقية للمعونة. ولم يعد ما تحصل عليه مصر من معونة اقتصادية من الولايات المتحدة الأمريكية يتجاوز مائتى مليون دولار سنويا.
قروض البنوك التجارية الدولية هى المصدر الأهم للتدفقات الخارجية للدول متوسطة النمو، وأصبحت مصر تعتمد عليها بدرجة متزايدة، ولكن هذه القروض غير ميسرة فى الغالب، تحمل معدلات فائدة تتوافق مع ما يسود فى الأسواق المالية الدولية لحظة الحصول على هذه القروض، وهى فى الغالب قروض قصيرة الأجل، ولابد من سدادها بعملة الدولة التى ينتمى إليها المصرف، وقد كانت سببا رئيسيا لأزمة المديونية التى عرفتها كبرى الدول النامية فى أمريكا اللاتينية وجنوب وشرق آسيا فى ثمانينيات القرن الماضى، وخصوصا أن معدلات الفائدة التى كانت تشترطها كانت تبلغ ٢٠٪ سنويا، وهو ما جعل كاسترو زعيم كوبا الراحل يصف تلك المديونية الناجمة عن هذه القروض بأنها مستحيلة التسوية نظريا وعمليا. ويمكن تفسير استمرار اللجوء إليها فى العقود الأخيرة بانخفاض معدل الفائدة دوليا بصفة عامة، وأن بعض هذه القروض يتم بضمان حكومة الدولة التى يتبعها البنك.
تبقى الاستثمارات الأجنبية المباشرة كمصدر أخير لضمان سداد تلك الفجوة بين الادخار والاستثمار المحلى وحجم الاستثمار المطلوب.
الاستثمار الأجنبى المباشر: ما له وما عليه
لا يمكن إنكار أن الاستثمار الأجنبى المباشر له مزاياه، ليس فقط فى سد فجوة التمويل، ولكنه يمكن إذا ما أحسنت السلطات العامة وضع شروطه، كما هو الحال تحديدا فى الصين وبعض دول أمريكا الجنوبية، أن يشكل قنوات مهمة للحصول على تكنولوجيات متقدمة، وفرصة مضمونة للنفاذ للأسواق الدولية. الاستثمار الأجنبى المباشر يمكن أن يساهم فى تنويع بنية الاقتصاد المحلى، وزيادة فرص العمالة، وتحسين الصادرات، ولكن كل ذلك يتوقف على معرفة السلطات المسئولة باتجاهات الاستثمار الأجنبى، وطرح الشروط التى تكفل اجتذابه وخدمته فى نفس الوقت لأهداف التنمية الوطنية التى تضعها هذه الحكومات.
أول الملاحظات على اتجاهات الاستثمار الأجنبى هو أنه لم يعد يغطى التمويل الكامل لما قد يقيمه من مشروعات فى الدول المتلقية، وإنما أصبح يعتمد على التمويل المحلى من البنوك الوطنية فى توفير التمويل اللازم. وقد لا يقدم سوى القدر الضئيل من التمويل المطلوب اعتمادا على أن مكانته وقوته النسبية سوف تكفل له أن يحصل على ما يريده من تمويل وبشروطه. ولعلنا نذكر أن العرض الأول لتمويل بناء العاصمة الإدارية الجديدة جاء من مستثمر إماراتى شهير، ولكنه طلب أن يأتى التمويل فى أغلبه من البنوك المصرية.
وقد يكون ما تطرحه الشركات الأجنبية ليس ضخ أى أموال، وإنما المشاركة بتوفير التكنولوجيا اللازمة مقابل حصة فى رأسمال المشروع الجديد، أو أن تحمل منتجات المشروع الجديد العلامة التجارية للشركة الأجنبية، وتكون تلك هى قيمة حصتها فى هذا المشروع. وحتى يعفى المستثمر الأجنبى نفسه من عبء البحث عن تمويل محلى، فهو يفضل المشاركة مع شريك محلى، ولا يمانع أن يكون الشريك المحلى إحدى مؤسسات القطاع العام فى الدولة المعنية أو إحدى الشركات الكبرى فى القطاع العام لقلة ثقة الشركات الدولية فى معظم شركات القطاع الخاص فى الدول النامية وتفضل عليها الشركات المضمونة من الدولة.
ومن ناحية ثانية فقد لا يؤدى الاستثمار الأجنبى لا إلى زيادة العمالة ولا تنويع الإنتاج، عندما يكون اهتمام الشركات الدولية مقصورا على الاستحواذ على شركات محلية ناجحة، فيتحول الأمر إلى مجرد تغيير فى الكيان المالك فقط ووضع اسمها على الشركة الناجحة التى تم الاستحواذ عليها. وهذا ما جرى فى العديد من دول أمريكا الجنوبية حيث وضعت الشركات الدولية أعينها على قطاع الاتصالات المحلى الناجح، واستحوذت على شركاته، دون تغيير يذكر لا فى نمط التكنولوجيا ولا فى تنويع الاقتصاد المحلى. بل وتشير التجربة المصرية فى حالات محددة أن نقل الملكية للشريك الأجنبى اقترن بخفض مستوى العمالة واستمرار نفس نمط الإنتاج السابق وتحويل الأرباح من الشركة التى تم الاستحواذ عليها إلى الخارج بدلا من استثماره محليا.
ومن ناحية ثالثة، فقد تؤدى الشراكة الأجنبية إلى تفاقم مشكلة المديونية الخارجية، فليس هناك هذا التدفق الهائل لرئوس أموال أجنبية، وإنما مزاحمة للشركات الوطنية فى الحصول على تمويل من البنوك المحلية، وهناك تدفق هائل إلى الخارج فى صورة أرباح وفوائد ورسوم استخدام التكنولوجيا الأكثر تقدما وبيع الاسم التجارى للشريك الأجنبى. بل والأخطر من ذلك ممارسات معروفة ومسجلة للشركات الأجنبية عندما تقوم بالمبالغة فى تحديد قيمة ما تقدمه للدولة النامية من أموال وأساليب إنتاج وخدمات ما بعد البيع إلخ، وتواضع شديد فى تحديد قيمة ما تحصل عليه من الدولة النامية، وهى تتمكن فى تحقيق ذلك من خلال مهارتها فى تقدير حساباتها، وهو أمر أصبح معروفا لخبراء دول الجنوب المراقبين لعمل هذه الشركات. ونتيجة ذلك أن الدول الأكثر اجتذابا لرءوس الأموال الأجنبية وذات الحصة الأكبر من قروض البنوك الدولية للدول النامية هى كبرى الدول المدينة فى الجنوب، وتمثل ديونها للبنوك الأجنبية وللشركات الدولية الجانب الأعظم من بنود مديونيتها.
وأخيرا، فعندما يتضاعف وجود الشركات الأجنبية فى اقتصاد دولة نامية أو فى قطاع حيوى فى اقتصادها سواء كان قطاعا إنتاجيا أو خدميا مثل الاتصالات أو الصحة، تضعف قدرة الدولة على التحكم فى تنميتها أو توجيهها على النحو الذى يحقق التنمية الإنسانية لمواطنيها ومواطناتها، وتنتقل من حالة التبعية التقليدية التى كانت تنتج فيها مواد أولية للتصدير إلى حالة جديدة من التبعية المالية والتكنولوجية، ولكنها تظل دولة تابعة تحت رحمة الشركات الدولية وتقلبات الاقتصاد العالمى.
أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة