لم تكن تعرف أن فى بلدها من يملك هذه القدرة الهائلة على ابتكار كل هذا الكذب. قالت «أخجل من نفسى وأنا أتحدث معك عن العلاقات بين بلدينا. بالتأكيد لن تصدق بعد اليوم حججى التى أسوقها لتقتنع بأن أمريكا سوف تبقى دولة عظيمة. أكاد أسمعك تسأل نفسك عن كيف تكون أمريكا عظيمة وقد يتولى رئاستها رجل وامرأة لم يتوقفا عن الإدلاء بكذبة بعد أخرى خلال حملة انتخابية لعلها الأسوأ فى تاريخ السياسة».
***
يبدو أن البعد عن الحقيقة أينما كانت ومتى حلت أصبح إحدى سمات هذا العصر الجديد الذى نعيش فيه. سمعت ثم قرأت عن مؤتمر أوروبى انعقد قبل أسبوعين لمناقشة مشكلات التعليم فى دول الاتحاد الأوروبى. شارك فى المؤتمر معلمون ليطرحوا وجهات نظرهم فى المناهج والمقررات والطرق الحديثة فى التدريس. فاجأ المعلمون منظمى المؤتمر والمشاركين حين لفتوا نظرهم إلى أن التلاميذ الذين هم لب وجوهر القضية التعليمية، موضوع المؤتمر وهدفه، ليسوا التلاميذ الذين استقرت صورتهم وطباعهم واهتماماتهم والقيم التى يتحلون بها فى أذهان كبار المتخصصين فى قضايا التربية والتعليم. قال المعلمون إنهم يعلمون جيلا لا يريد أن يهتم بالوقائع أو الحقائق فى حد ذاتها. ففى مادة التاريخ مثلا يأتى المعلم إلى الفصل، وقد استعد بتفاصيل فتوحات نابليون بونابرت ومزودا بتواريخها ومسارح القتال وأساليب القيادة ومعنويات الجنود ليفاجئه التلاميذ بتعليقات عن أخلاقيات نابليون وسلوكياته وذوقه فى اختيار زوجاته ومحظياته. يهتمون بإصدار الأحكام عنه وعن عهده فى الحكم قبل أن يهتموا بوقائع الحكم ومحطاته الأساسية.
ذلك هو حال درس الجغرافيا. يتعب المعلم فى شرح دور المناخ فى كثافة أو ندرة السكان ودور موارد المياه ووعورة التضاريس فى اختيار مواقع المدن، ليتبقى فى نهاية الدرس فيضا من التعليقات يرتبط أغلبها بما تردد عن قسوة حكام هذا البلد أو ذاك، وعن ميل السكان إلى العنف وربما ما اشتهر عنهم من ثقل الظل وصعوبة المعاشرة. لا اهتمام بجغرافية المكان وتفاصيل الطبيعة.
الظاهرة التى اكتشفها المعلمون فى أوروبا، وأعتقد أنها موجودة فى مدارسنا ومدارس أمريكا، هى أن اهتمامات تلاميذ هذه الأيام بعيدة كل البعد عن جوهر وحقيقة الوقائع ومنصبة على ما يحيط بها من قصص وشائعات وأقاويل وإصدار الأحكام فى شأنها. أصبح التلميذ مهتما بالحكم على الأشياء دون أن يتعرف أولا على مصادرها وتفاصيلها أو على حقيقتها. لاحظ المعلمون أيضا أن إجابات التلاميذ على أسئلة الامتحانات صارت قيمية، إجابات تحاكم وتحكم وتفضح وتشوه ولا تجيب بما يثبت أن التلميذ يعرف حقيقة ما يجيب عليه. المعلومات ليست مهمة، المهم هو إصدار احكام عليها.
***
استشرت صديقا له أولاد فى سن الدراسة الابتدائية والثانوية. أذهلتنى شهادته. قال إنه كلما أتيحت له فرصة اطلاع أولاده على معلومة جديدة توصل إليها، وهى فرصة لا تتكرر كثيرا، شعر بعدم ترحيب أو تشجيع من جانبهم. يسارعون فى نهاية كل محاولة لاستدراجهم ليتعرفوا على واقع علمى أو فنى جديد بالادعاء أو الزعم بأنهم سبق واطلعوا عليه ثم يطلقون حكما أو آخر عليه. أحدهم سمع أباه يتحدث مع أمه عن صديق مشترك للعائلة استدعته قوى الأمن لزيارة قصيرة، فإذا به يتدخل بالقول: «أنا عارف، وأعرف سبب استدعائه.. أصله عميل وخاين». صدق من قال: إنها الفجوة بين الأجيال، تخيلت بينما أنصت إلى الرجل ما كان يمكن أن يحدث لو كنت أنا هذا الولد وتدخلت فى حديث بين أمى وأبى لأقول أمامهما ما قاله هذا الولد عن صديق العائلة أو أن أعلق أو أحكم على شىء لا علم لى به.
***
جلست أمام شاشة التليفزيون أتنقل بين القنوات. كان موعد نشرات الأخبار. سمعت فى واحدة منها مذيعا يتهم دولة عربية بخيانة الصف العربى وفى نهاية الاتهام ينقل خبرا بالإيجاز الممكن عن واقعة اجتماع جرى بين سمو الأمير وضيف من عندنا. لا علاقة على الاطلاق بين الاتهام والخبر. انتقلت إلى قناة أخرى فسمعت الاتهام نفسه ولكن مع خبر آخر عن الدولة ذاتها. على قناة أخرى كانت المذيعة الشهيرة تذيع «شيئا ما» لم أدرك كنهه تماما، لم أعرف إن كان نقل واقعة أم قراءة بيان تمجيد واحتفاء. تأكدت من حقيقة جديدة فى مهنة الإعلام وهى أننا «إعلاميا» نعيش بالفعل عصر «ما بعد المعلومة» أو نعيش فى عصر «ما بعد الواقعة». لا نهتم بالواقعة بقدر ما نهتم بتشويهها واختلاق قصص تقلل من قيمتها أو بالعكس نبالغ فى تمجيدها وتزويقها. لا نهتم بما قال أو فعل مواطن بقدر ما نهتم بمصيره الذى صار ملك أيدينا، نقتله حيا أم نرفعه إلى مصاف الرسل.
***
نعيش فى زمن الكذب.. أولادنا، إن صح ما قاله المعلمون فى أوروبا وصدق عليه المعلمون فى مصر، يكذبون حين يعلقون على معلومة لم يسمعوا عنها. إعلاميونا، طبعا أتحدث عن بعضهم، يكذبون حين يستجيبون لتكليفات أو يتطوعون بإضافات تجعل نقل المعلومة وسيلة لتشويه سمعة شخص أو دولة أو شعب أو وسيلة لإرضاء حاكم أو مسئول صغير ولكسب منفعة وصك تأمين وضيافة رحلة. تنكر هذا البعض لمهنته التى اشترطت عليه لممارستها صدق الكلمة فكذب واستمر الكذب حتى صار بعضهم، كما يحدث الآن فى أمريكا، لا يخفى احتقاره للبعض الآخر علنا. النتيجة كما نراها فى مجتمعات أخرى هى سقوط الإعلام فى التراب متمرغا ضحية كذب فئة تنكرت لأخلاقيات المهنة. حقيقة الأمر هى أن البعض منا وربما صار أغلبية فى قومه، وبينه حكام ومحكومون، لم يعد يستخدم العقل لتقييم معلومة جديدة، أصبحوا وللأسف يلجأون فور الإبلاغ بواقعة جديدة إلى انطباعاتهم الحسية أو مصالحهم الشخصية أو كلها معا يحكمون بها على الواقعة فيشوهون سير شخوصها يمزقونهم تمزيقا، ويسحقون الواقعة سحقا فتضيع تفاصيلها أو يزهون بها ويتكبرون، يشيدون بأبطالها ويرفعونهم إلى مصاف النبلاء وإن انعدم الخجل فمصاف الأنبياء. فى الحالتين يحدث منهم ما يحدث من أطفال هذا العصر، هم لم يقرأوا أو يطلعوا أو يشاهدوا الواقعة، ولكنهم جاهزون فورا للتعليق والحكم عليها.
***
عن الكذب فى السياسة حدث ولا حرج. كنا ونحن صغار نعتقد أن السياسى القوى لا يكذب. يكذب فقط السياسى الضعيف. كبرنا ونضجنا لنعرف أن كلهم يكذبون لأنهم يقتنعون بأنهم يصنعون واقعا جديدا وفى النتيجة يخلقون «حقيقة» أو أجزاء منها ولو بالكذب. فى ظنهم أن لا شىء، لا شىء على الإطلاق، حتى الصدق يستحق أن يقف عائقا يمنع وصول السياسى إلى هدفه المعلن وهو حماية الدولة ممن يعتقد أنهم خصومها. نموذجنا المرموق السيد دونالد ترامب، الذى كذب كذبا عظيما فى هذه الحملة الانتخابية الفريدة فى آثارها وتداعياتها الحادثة والمرتقبة. يقولون فى أمريكا إن أكاذيبه تجاوزت فى العدد والنوع أكاذيب الرئيس ريتشارد نيكسون، أحد أشهر من كذب من رؤساء أمريكا. يقولون أيضا أن ترامب تفوق فى عدد أكاذيبه على الرئيس جورج بوش الابن الذى ارتكب 935 كذبة منذ توليه المنصب وحتى اليوم الذى سبق شن حربه المتوحشة على العراق.
***
للكذب السياسى والإعلامى منافع لأصحابه لا يمكن إنكارها أو تجاهلها. أهم منافع هذا النوع من الكذب حفز الناس على الابتعاد عن الواقع بالغوص فى بحار الأحلام والأوهام والخرافات والانغماس فى سير المؤامرات والأسرار وحكايات الرعب والخوف. من المنافع أيضا أنه يخفى المستوى التعليمى والمهنى الهابط لعدد متزايد من السياسيين والإعلاميين الجدد فى أمريكا وخارجها. ألم يجرب أهالينا معنا فى الصغر بعض هذه الأساليب بدعوى حمايتنا، جربوا، ولكن بدون قهر وقمع خوفا على ذكائنا وإنسانيتنا. كذلك لم يتعودوا تشويه المعلومة أو تغيير معالمها قبل وصولها إلينا. الغريب، أو لعلها من مفارقات الزمن الجديد، أننا نعيش فى عصر المعلومات ولكن هناك من يحاول بكل ما أوتى من سلطة أو مال حرماننا من استهلاك المعلومات فى حالتها الطبيعة، أى خالية من الأحكام المسبقة والتشويه أو التجميل المتعمد.. إنه عصر الكذب بامتياز.