«أرامكو» وتسخير الخصخصة لصالح التنمية!
محمد يوسف
آخر تحديث:
السبت 23 نوفمبر 2019 - 11:15 م
بتوقيت القاهرة
تعودت فيما أكتبه من أفكار وتحليلات اقتصادية ألا أتعامل مع المصطلحات الاقتصادية كمسلمات غير قابلة للنقاش أو إعادة التعريف. فلو افترضنا أن مصطلح ما قد صيغ لتفسير والتنبؤ بظواهر وعلاقات اقتصادية حدثت فى اقتصاد ما بحقبة زمنية معنية، فلا يصح إذن التسليم بصلاحية نفس هذا المصطلح للقيام بذات المعنى فى اقتصاد آخر وفى حقبة زمنية أخرى.
تأمل هنا مصطلح كالخصخصة، والذى يشير لبيع الحكومات لما تملكه من شركات عامة، فستجد أنه يُنظر إليه دائما بنظرات التوجس والريبة؛ ذلك لأن خبرات بلدان العالم الثالث مع هذه الخصخصة بها شواهد عديدة على أن هذه الخصخصة لا تعمل لصالح التنمية. ومع ذلك، فإن شيوع هذه النظرة عن الخصخصة ليس دليلا دامغا على صحتها؛ ولا تمنعنا أن نتساءل السؤال الجوهرى التالى: إذا أمست الخصخصة توجه لا مناص عنه، فكيف يمكن تسخيرها لتعمل لصالح التنمية الاقتصادية؟
***
عندما أعلنت الحكومة السعودية عن نيتها لطرح حصة محدودة من أسهم شركة «أرامكو السعودية» للبيع، قلت فى نفسى إنه فى حالة تنفيذ هذه الخطوة، ستكون تجربة اقتصادية ثرية بالدروس المستفادة. ولم لا، وطرح حصة من أسهم شركة «أرامكو السعودية» فى سوق الأوراق المالية السعودية أعتبره نقطة فارقة فى تاريخ الاقتصاد السعودى؛ ليس لأن القيمة المُقدرة للطرح، أو الاتجاه العام للتغطية، تجعله أكبر عملية طرح فى السوق السعودية والإقليمية (وقد يصبح الأكبر عالميا)، ولكن للمكانة الاستراتيجية التى تتمتع بها شركة أرامكو فى الاقتصاد السعودى، ومن ورائه الاقتصاد العالمى. فشركة «أرامكو السعودية» المملوكة للحكومة السعودية تنتج أكبر إنتاج نفطى فى العالم؛ ومن ثم، فهى تتمتع بوزن نسبى حاكم فى جماعة بائعى النفط العالمى «أوبك»؛ كما أن من حصيلة تصديرها للنفط، ظلت أرامكو الممول الرئيسى والدائم للميزانية العامة فى المملكة العربية السعودية.
وللتعلم من دروسها المستفادة، فمن المنطقى أن خطوة اقتصادية كهذه ستثير العديد والعديد من الأسئلة؛ فمن أسئلة حول المبررات التى تفسر اللجوء للطرح، وأخرى تتأمل فى النتائج التى يمكن أن تترتب عليه، وأخرى حول الشروط الضرورية لتسخير هذه الخصخصة الجزئية لكى تعمل لصالح التنمية فى الاقتصاد السعودى. وفى النقاط التالية، أحاول الإجابة على هذه الأسئلة الملحة.
فعن دوافع ومبررات السياسة الاقتصادية السعودية لطرح جزء من أسهم أرامكو فى سوق الأوراق المالية السعودية، فهناك مبررات أيديولوجية، وهناك مبررات تمويلية، وأخرى مؤسسية ورقابية. فأما عن المبررات الأيديولوجية التى تقف وراء عملية الطرح، فإنها تتمثل فى سيطرة الاتجاه النيوليبرالى على صناعة السياسات الاقتصادية فى الدول الآخذة فى النمو (ومن بينها المملكة العربية السعودية)، واتباع أغلب هذه الدول لتوصيات المؤسسات المالية والتجارية الدولية (صندوق النقد والبنك الدوليين بالإضافة لمنظمة التجارة العالمية). ففى العقود القليلة الماضية، عمد صانعو السياسات الاقتصادية إلى تطبيق سياسات تستهدف تثبيت المؤشرات المالية والنقدية، وتزيد من نصيب القطاع الخاص فى النشاط الاقتصادى على حساب النشاط الحكومى، فيما يعرف اصطلاحا ببرامج «الإصلاح الاقتصادى».
ولما كان الاقتصاد السعودى لم يشذ عن هذا الاتجاه، فقد كانت سياسات تحرير الأسعار وتقليل الانفاق العام الحكومى واستحداث ضريبة على الاستهلاك (ضريبة القيمة المضافة)، تمثل الجناح الأول لحزمة السياسات المطبقة فيه مؤخرا؛ أما الاتجاه لخصخصة الشركات العامة وطرحها فى البورصة، فهو الجناح الثانى من هذه الحزمة. فلجوء السياسة الاقتصادية لطرح جزء من أسهم شركة أرامكو يعبر إذن عن إيمانها بجدوى وملاءمة هذه الأيديولوجية النيوليبرالية للظروف الراهنة للاقتصاد السعودى.
وبالإضافة للمبرر الأيديولوجى، فهناك مبررات تمويلية دفعت السياسة الاقتصادية السعودية لطرح جزء من أسهم شركة أرامكو. فالعجز الذى أصاب الموازنة العامة فى السنوات التى تلت التوترات السياسية الإقليمية، قيد من قدرة الحكومة هناك على تمويل الأنشطة الجارية والرأسمالية المدنية، ودفعها للجوء إلى الاقتراض من سوق رأس المال الدولى بأسعار فائدة قد تشكل عبئا على الاقتصاد السعودى فى المستقبل. ولذلك، فطرح حصة بسيطة من أرامكو الضخمة، سيوفر للحكومة سيولة تقضى على فجوة الموارد المحلية، وخصوصا فى حالة الطرح على المستثمرين المحليين؛ وسيقلل ــ مؤقتا ــ من فجوة الموارد الخارجية، إذا ما نجح فى جذب مدخرات العمالة الوافدة والمقيمة فيها.
كما توجد مبررات رقابية تظهر فى ثنايا عملية الطرح لسهم شركة أرامكو. ففى الشركات المملوكة بالكامل للحكومة، فإن التساؤلات دائما ما تثار حول مستوى الشفافية المالية ودرجة الإفصاح التى تتمتع بها إدارتها التنفيذية، ولا توجد آلية مستقرة لمتابعة أدائها المالى. أما فى حالة الشركات الخاصة المتداولة فى البورصة، فتلتزم الشركات قانونا بالشفافية والإفصاح عن مراكزها المالية. وبالتطبيق على حالة شركة أرامكو، وطالما أن سهمها سيصبح متداولا فى البورصة السعودية، فإن القوانين المنظمة لسوق المال السعودية ستكفل تحسين مستويات الشفافية، وستزيد من درجات الإفصاح لأداء الشركة المالى، وسترتقى بفاعلية الدور الرقابى على أداء الشركة.
***
ومهما يكن من أمر الأسباب التى تفسر عملية الطرح، فإن النتائج المتوقعة له فى الاقتصاد السعودى ستتنوع بين النتائج المباشرة والنتائج غير المباشرة. إذ يتوقع أن يتأثر قطاع النفط مباشرة بعملية الطرح لجزء من سهم أرامكو. فعندما تزيد الشفافية والافصاح المالى والإدارى والفنى فى الشركة، سيظهر أثر ذلك فى تطور الإنتاجية الكلية لعناصر الإنتاج إيجابيا، وهو ما سيزيد من كفاءتها الاقتصادية وقدرتها على تحقيق الأرباح فى المستقبل. وفى المقابل، فيمكن أن يتمخض عن هذا الطرح نتائج سلبية فى حجم انتاج قطاع النفط، وفى مرونة الإنتاج النفطى السعودى؛ وخصوصا إذا ترتب على ملكية القطاع الخاص للأسهم تقلبات سعرية (نتيجة المضاربات الاعتيادية على سعر السهم)، وبما يؤثر فى الملاءة المالية للشركة أو فى قدراتها الإنتاجية، وبالتالى فى كفاءة الأداء الاقتصادى لها.
ورغم أنه من المتوقع أن تحدث فورة فى السوق السعودية للأوراق المالية، ويتأثر سوق التداول إيجابيا بعملية طرح سهم أرامكو؛ إما نتيجة لدخول مدخرات جديدة للسوق كانت بعيدة عن أنشطة التداول فيه، أو نتيجة لزيادة الطاقة الاستيعابية له بسبب دخول أسهم هذه الشركة العملاقة فى عمليات التداول؛ إلا أن استمرار هذه الآثار الإيجابية مرهون بأن يواكبها خلق حزمة من الأدوات والأوعية تكون قادرة على استيعاب الاستثمارات التى ستفيض عن تغطية سهم أرامكو، لتجنب خروجها مرة أخرى بعيدا عن هذه السوق المالية.
على أن الموازنة العامة السعودية ستتأثر هى الأخرى مباشرة بعمليات الطرح؛ بسبب توافر مصادر دخل جديدة لها ناتجة عن بيع جزء من أصول الشركة، والتى كانت فى الأساس مملوكة للحكومة السعودية. لكن الآثار الإيجابية على الموازنة العامة ستكون قصيرة الأجل. وفى الأجل الطويل، ستدفع الشركة جزءا من أرباحها لحاملى أسهمها من القطاع الخاص، مزاحمين بذلك الموازنة العامة السعودية. وفى ذات السياق، سيتأثر ميزان المدفوعات مباشرة من عمليات الطرح لسهم شركة أرامكوا، لأنه سيقلل ــ مؤقتا ــ من التحويلات الخارجية للعمالة الوافدة المكتتبة فى هذا السهم؛ لكنه بعد مضى عملية البيع مباشرة، ستتشكل أعباء جديدة على ميزان المدفوعات، نتيجة تحويلات الأرباح المترتبة على حيازة المقيمين لسهم أرامكو.
أما على صعيد الأداء المؤسسى والرقابى فى الأنشطة المالية، فيتوقع أن تتحسن مؤشراتهما فى الاقتصاد السعودى من عملية طرح سهم شركة أرامكو، طالما واكبهما تطوير وتحسين مستمر فى أداء سوق الأوراق المالية السعودية؛ أى إذا حدثت طفرة فى مؤشرات الحوكمة فى هذه السوق. فمن دون تحسن مؤشرات الحكومة الرشيدة، شهدت الأسواق المالية فى الدول الآخذة فى النمو انتكاسات أعقبت عمليات طرح لأسهم شركات عامة مؤثرة، وتبددت الآمال التى كانت معقودة على تطور سوق الأوراق المالية فيها.
وإذا نظرنا الآن للنتائج غير المباشرة للخصخصة الجزئية لشركة أرامكو، فهناك آثار متوقعة على باقى القطاعات الاقتصادية من طرح هذا السهم فى السوق المالية السعودية. منها مثلا أن التحسن فى أداء شركة أرامكو بعد الطرح، ستصل آثاره الإيجابية الإنتاجية فى القطاعات المرتبطة والمغذية والمتشابكة مع قطاع النفط السعودى، كون شركة أرامكو هى القلب النابض لهذا القطاع. وقد تزاحم عمليات الاكتتاب فى سهم أرامكو الاكتتابات الخاصة فى السوق المالية السعودية، أو تقلل من الأسعار النسبية فى هذه السوق قبل وأثناء عمليات الطرح. ومن المتوقع كذلك أن يصبح سهم أرامكو من الأسهم القيادية فى السوق. وبالتالى، ستؤثر النتائج المالية الدورية للشركة على أسعار الأسهم فى باقى القطاعات المتداولة فى البورصة، وهو ما يعنى تأثيرا غير مباشر عليها.
***
يمكن للتحليل السابق لتجربة طرح أسهم شركة «أرامكو السعودية» أن يوضح بعض الملاحظات التى تنشئها ملكية الحكومة للشركات العامة، وتكشفها عمليات خصخصة هذه الشركات فى الدول الآخذة فى النمو. كما يمكن لذات التحليل أن يجيب عن التساؤل الذى طُرح فى صدر هذا المقال حول الشروط الضرورية لتسخير هذه الخصخصة لكى تعمل لصالح التنمية.
فعندما تردت مؤشرات الأداء والإنتاجية فى الشركات العامة، أُلقى باللوم والمسئولية على هذه الملكية فى تعطيل التنمية الاقتصادية؛ ثم طُرحت الخصخصة كبديل. وفى التطبيق العملى، كان هذا البديل أشد وطأة على التنمية الاقتصادية من الأسباب التى دفعت إليه. وحتى يمكن التغلب على هذه المعضلة، تنشأ الحاجة للتوفيق بين عمليات الخصخصة وبين مقومات التنمية. فالخصخصة لن تضر مقومات التنمية فى الاقتصاد، إذا كان هدفها تعبئة المدخرات المحلية وتطوير الإنتاجية وزيادة الشفافية والمنافسة، وإذا كانت تتم فى بورصة كفؤة ومتطورة وقادرة على الاستيعاب، وإذا كان حجمها لا يقلل من قدرة الحكومة فى ضبط أنشطة الإنتاج وفى تمويل الإنفاق العام، وإذا كانت عوائدها لا تتسرب خارج الاقتصاد الوطنى. وفوق كل ذلك، لا يكون كافيا أن ترسم سياسات الخصخصة بشكل لا يضر بالتنمية الاقتصادية، بل أن تُسخّر هذه الخصخصة لخدمتها!
خبير اقتصادى