لمحة للتفاؤل فى ظل واقع عربى مأزوم

شيماء الشرقاوي
شيماء الشرقاوي

آخر تحديث: السبت 23 نوفمبر 2024 - 8:30 م بتوقيت القاهرة

جاء حفل افتتاح مهرجان القاهرة السينمائى الدولى لعام 2024 بمشهد بديع يعكس عمق العلاقة بين الفنون والقضايا الكبرى فى منطقتنا العربية، حيث قدمت فرقة «وطن الفنون» الفلسطينية عرضًا استعراضيا على أنغام أغنية «دمى فلسطينى»، تلاه عرض فيلم الافتتاح الفلسطينى كذلك «أحلام عابرة» للمخرج الفلسطينى رشيد مشهراوى. حيث إن ذلك لم يجعل افتتاح المهرجان مجرد حدث فنى، بل مساحة لإيصال رسالة تؤكد على محورية الدور الذى تلعبه الفنون والثقافة فى مواجهة الأزمات التى تعصف بواقعنا العربى.
فالفنون ليست فقط وسيلة للتعبير عن الأزمات، بل هى أيضًا من أدواتنا فى معركة السرديات. إنها المساحة التى نعبر فيها عن هويتنا وحقوقنا، ونؤكد من خلالها سرديتنا التى تواجه محاولات طمس الحق العربى، وعلى رأسه الحق الفلسطينى. وعلى مرّ العقود، كانت الفنون والثقافة ركنًا أساسيًا للدعم والمقاومة، فمن منا ينسى الدور الذى قام به كبار الفنانين والمثقفين خلال عقدى الستينيات والسبعينيات؟ من مساندة المجهود الحربى والقضية الفلسطينية والعربية من خلال حفلات وفعاليات ثقافية وفنية ساهمت فى الدعم العالمى والمحلى للقضية الفلسطينية ولحق الشعوب فى الحرية.
• • •
فى هذا الإطار، وعلى الرغم من تأزم واقعنا الحالى فى المنطقة العربية، يمكننا النظر لملمح من ملامح التفاؤل فى ظل هذا الواقع. وهذا الملمح هو المؤسسات العاملة على تدعيم الثقافة والفنون وخصوصا فى مواجهة الأزمات والتعامل معها. نبدأ بأحد الأمثلة من المؤسسات التى خرجت للنور فى أعقاب الثورة السورية عام 2011، وهى مؤسس «اتجاهات - ثقافة مستقلة» وهى مؤسسة ثقافية ناشطة فى الثقافة المستقلة فى سوريا. عبر موقعها الإلكترونى، تضع المؤسسة واحدا من أهدافها وقيمها وهو التأكيد على الحق فى الثقافة لكل مواطن ومواطنة سورية. وتعمل من خلال مجموعة من البرامج المتنوعة على دعم الفنون المستقلة وتعزيز دورها فى التغيير الثقافى والاجتماعى، وتسعى لدعم الفنانين والباحثين، وتمكينهم مهنيا، وترويج أعمالهم محليا ودوليا. خلال عشر سنوات منذ بدء عملها وعلى الرغم من ويلات الحرب القاسية والنزوح واللجوء التى عانى منها مواطنو سوريا إلا أن المؤسسة ساهمت فى حصول 218 فنانا وفنانةً وباحثاً على فرص دعم مختلفة من خلال برامج المؤسسة.
نذهب إلى السودان لنلقى الضوء على مؤسسة أخرى ركزت على الفنون والثقافة كأداة ووسيلة لمقاومة الأزمات وهى مؤسسة «عديلة» التى بدأت - وفقا لموقعها الإلكترونى الرسمى - عام 2018. فى القلب من أحداث الثورة فى السودان، تجمع مجموعة من الشباب والشابات لإصدار مجلة قصص مصورة سودانية لكى تُبرز ثقافات وفولكلور السودان بأسلوب جديد يعالج القضايا الاجتماعية. وبعد إصدارهم لثلاثة أعداد، قاموا بالشراكة مع مجموعات محلية فى ولايات متعددة، مثل الخرطوم والفاشر والدمازين وبورتسودان من أجل إنتاج مشاريع ثقافية وفنية تروج للسلام والعدالة وحقوق الإنسان ومن أجل محاولات فى إيجاد حلول للتحديات الاجتماعية والسياسية باستخدام الفنون. لدى مؤسسة عديلة العديد من المشروعات الفنية والثقافية المختلفة وعلى الرغم من الوضع المتأزم حاليا مع اشتداد الحرب فى السودان، إلا أن المؤسسة ما زالت تعمل على استكمال أنشطتها المختلفة، ونذكر منها مؤخرا إصدارهم كتيبا تحت عنوان: أثر الفراشة «التغيير عبر الفنون» موجها للفاعلين والفاعلات فى المجال الثقافى والفنى فى السودان ومؤكدا على محورية الإنتاج الفنى والثقافى فى مواجهة الحرب ومن أجل إحداث تغيير حقيقى.
فى نفس الإطار يمكننا الإشارة لورقة سياسات أصدرها مؤخرا منتدى البدائل العربى للدراسات فى بيروت من خلال أحد مشروعاته الأزمات والممارسات الديمقراطية فى منطقتنا العربية لكاتبتها طاهرة طارق، التى تناولت مفهوم «الإغاثة الثقافية» كتدخل معنى بتلبية الاحتياجات المعنوية للمجتمعات المتأزمة عبر الفنون، لتمكين الأفراد من التعبير عن أنفسهم وتعزيز التفاعل المجتمعى وصياغة سرديات تعكس تجاربهم. استعرضت الورقة تجربة مؤسسة «العمل للأمل» فى لبنان، التى انطلقت عام 2012 لدعم اللاجئين السوريين. تأسست مدرسة للموسيقى عام 2015 وأخرى للسينما عام 2017 لتزويد الشباب بأدوات إبداعية وتمكينهم من احتراف الفنون. تخرج فيها 137 موسيقيًا و68 سينمائيًا، وأسهمت فى توفير فرص عمل ومنح تعليمية، بجانب تقديم دعم نفسى ومعنوى للاجئين وتعزيز اندماجهم بالمجتمع المضيف.
• • •
ما يجمع هذه التجارب والمؤسسات هو الإيمان القوى بأن الفنون والثقافة ليست رفاهيات ولا تقتصر على أوضاع أو طبقات اجتماعية معينة، بل هى من أساسيات الحياة ومواجهة الأزمات. حاولت - وما زالت- هذه المؤسسات ابتكار وسائل وأدوات مختلفة تواجه بها واقعها وتحاول كذلك تغييره وتعزيز مفاهيم قائمة على التعاون والتضامن وكذلك المواطنة وتدعيم مشاركة المواطنين والمواطنات فى الأنشطة الثقافية والفنية المختلفة ويساعدهم ذلك على الاستمرارية، على الرغم من الآثار السلبية للأزمات والدمار الذى ينتج عن الحروب. كذلك توفر الفنون والثقافة مساحات للحوار والتجارب المشتركة التى تتجاوز الانقسامات الداخلية فى المجتمعات التى شهدت أزمات أو حروب، وتساهم كذلك فى إعادة بناء النسيج المجتمعى، وفى أحيان كثيرة تصبح مساحة للعمل وتطوير النشاط الاقتصادى.
قد يرى البعض أن ما قامت به المؤسسات المذكورة أعلاه ليس من الأولويات فى ظل الواقع العربى الحالى، لكن من يتابع الأوضاع، خاصة فى غزة ولبنان، يدرك تمسك المواطنات والمواطنين هناك بكل وسيلة تمكنهم من مقاومة أهوال الحرب. وسط مقاطع الفيديو المؤلمة التى تصلنا من غزة، نشاهد أحيانًا مقاطع مصورة لأهاليها يغنون أغانى الفلكلور الفلسطينى. الأمر ذاته نجده لدى الفلسطينيين فى الشتات، الذين يشاركون فى أنشطة ثقافية مرتدين الأزياء التقليدية والكوفية الفلسطينية، التى تعكس بوضوح الثقافة الفلسطينية.
فى لبنان، نجد محاولات دءوبة من المواطنين للإبقاء على مساحات للحياة، رغم صعوبة الظروف، من خلال الغناء، والرقص، والتصوير، وغير ذلك من الفنون. هذه الفنون لا تقتصر على توثيق معاناة الشعوب، بل تشكل أيضًا شكلاً من أشكال المقاومة؛ مقاومة الموت بالحياة، ومقاومة الخراب بالفن.

باحثة فى العلوم السياسية بمنتدى البدائل العربى للدراسات فى بيروت.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved