عفريت الناقد الداخلي


رضوى أسامة

آخر تحديث: الأربعاء 23 ديسمبر 2009 - 1:17 م بتوقيت القاهرة

 تخبرنى فى بساطة شديدة بأنها ستترك عملها الأول، لن تحتمل المزيد من الضغط، أتأمل فى المدة القليلة جدا التى قضتها فى ذلك المكتب، والتى لم تتعد الشهرين، وأتعجب، تبرر لى ذلك بأنها امرأة، وليس من المفترض أن تتحمل المزيد من الضغوط، صديقتى هذه تمتلك قدرات إبداعية لا تعترف هى بها.

موقفها يذكرنى ببعض ما يحكيه المرضى عن وظيفتهم، وكيف أنهم يميلون إلى تركها بسرعة عند مواجهة أى ضغط حتى ولو بسيط، للدرجة التى دفعت أحدهم إلى تركها بعد حصوله على ترقية، وبمناقشة الأمر توصلنا إلى أنه تركها لعدم الثقة فى نفسه، وأن أمره سيفتضح خاصة بعد الترقية لأنها لا تناسب قدراته المنخفضة.

عندما نترك الجامعة ونذهب لاستلام وظائفنا الأولى، نشعر بالفرح الشديد والخوف المرتقب، وهو أمر يشبه كثيرا دخول الطفل لأول مرة إلى المدرسة، فبعد أن كان كائنا تابعا لأسرته يستمد ثقته وأمانه من الأسرة أصبح عليه أن يترك كل هذا العالم الآمن ويثبت نفسه وقدراته أمام الفصل ويكون علاقات فى المدرسة. أيضا عندما نترك دراستنا وأسوار مدارسنا أو الجامعة التى تخرجنا فيها واعتمادنا على الأهل فى تلقى المصروف، يصبح علينا الاستقلال وإثبات الذات.

أتذكر جيدا لحظة تركى بمفردى فى أول مدرسة دخلتها، كان حدثا شاقا بالنسبة لى، تركتنى أمى بعد أن أدخلتنى الفصل ووجدتنى وحيدة أمام عالم جديد لا أعرفه، يشبه ذلك جدا شعورى عندما تسلمت وظيفتى الأولى، أيضا شعرت بالوحدة الشديدة إزاء هذا العالم الجديد وأفراده الذين يعرفون بعضهم جيدا ولديهم حكايات مشتركة لست طرفا فيها.
نختلف جميعا فى قدراتنا ومهاراتنا الاجتماعية، فبينما يمكن للبعض الاندماج بسرعة فى المجتمع الجديد، والشعور بإمكانية فهم واستيعاب المهام الجديدة التى تختلف فى العادة كليا عن الدراسة النظرية، نجد البعض الآخر عاجزا عن تكوين ذلك بسهولة ناظرا للأمر على أنه حدث شاق يدفعه إلى التفكير بجدية شديدة فى ترك العمل، مبررا ذلك بأنها لا تتحمل المزيد من الضغط أو بأن الوظيفة ليست لها علاقة بما تعلمته، وهو أمر يحدث بنسبة كبيرة جدا.

معظم ما تعلمناه فى مدارسنا وجامعتنا لا يمت بصلة للواقع العملى بشكل كبير، على العكس فالواقع العملى هو الذى يمكنه أن يضفى المزيد من الخبرات.

السؤال المهم الآن ما الذى يمكننا فعله إزاء مواجهة هذه الضغوط؟

معظم الحالات التى عانت من هذه المشكلة كانت تعانى بشكل أساسى من عدم الثقة بالنفس ولديها صورة مشوهة عن نفسها وعن قدراتها، وتزداد هذه المشكلة سوءا عند الوجود فى بيئة عمل غير متفهمة، فصديقتى التى تحدثت عنها فى بداية المقال دفعها حظها للعمل فى مكتب هندسى يحاول صاحبه دفع مهندسيه إلى المزيد من العمل عن طريق تشجيعهم بشكل سلبى، وهى طريقة التشجيع المعتمدة فى الكثير من الأماكن والتى يعتقد أصحابها أنهم بمجرد توبيخ الشخص والاستياء مما قدمه سيدفعه إلى المزيد من الإنتاج الأفضل، وهو أمر لا يحدث نهائيا، لأن ذلك سيدفع الى الإحباط والمزيد من الضغوط لذلك فالعمل مع هؤلاء الأفراد يضيف أفكارا سلبية تدفع الناقد الداخلى الموجود فى عقولنا إلى طرح المزيد من الصور السلبية عن ذاتنا، فهذا الناقد الداخلى هو الذى ستجده يقول لك: «ستظل فاشلا حتى بعد توافر فرصة عمل جيدة.. قريبا ما ستفقدها» و«مديرك غاضب منك وستترك العمل قريبا». ودائما ما يكون كلام هذا الناقد الداخلى غير واقعى نهائيا ويحتاج إلى المزيد من المناقشة.. فتحتاج فى مناقشتك مع الناقد الداخلى إلى أن تقر بأن هذه هى مشكلة مديرك الذى لا يتفهم طريقة التشجيع الجيدة. وأظن أنه من المفيد أن تعطى مديرك مفاتيح تجعلك أكثر انتاجية، لكن هذا يحتاج إلى بيئات عمل آمنة.. كثيرا ما يلقى مديرى على ما أقدمه من تقارير نظرة صامتة موحية بالرضا، لكن هذا يحبطنى جدا، فأطلب منه أن يشكرنى على العمل الذى قمت به ويقول لى كلمات تشعرنى بالإنجاز.. لكنى أعرف أن ذلك غير متوافر فى كثير من بيئات العمل.. وأن الأمور تحتاج إلى مناقشة فعلية للناقد الداخلى بداخلنا وأن نواجه تلك الأفكار السلبية الناتجة عنه، وهو أمر لن ينجح من المرة الأولى. فهذا الناقد الداخلى صديق طفولة تربى معنا من تعليقات أهالينا وطريقة تربيتهم لنا وتعليقات مدرسينا، وهو الأمر الذى جعله راسخا داخلنا ويحتاج إلى مزيد من المجهود والوقت لمناقشته والتغلب عليه.. طالما استطعت أن تحصل على عمل فى ظل ظروف مجتعنا وقبلك صاحب العمل فأنت تمتلك القدرة على أداء ذلك.. فقط ناقش ناقدك الداخلى وتغلب عليه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved