انتقائية الغرب بين غزو روسي مرفوض واحتلال إسرائيلي مقبول
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الجمعة 23 ديسمبر 2022 - 8:40 م
بتوقيت القاهرة
خلال زيارته لواشنطن نهاية الأسبوع الماضى، خاطب الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى مجلسى الكونجرس (النواب والشيوخ) شاكرا دعم الولايات المتحدة العسكرى والمالى فى مواجهة العدوان الروسى ومؤكدا على أن بلاده تكافح فى سبيل انتصارها وانتصار القيم العالمية التى تؤمن بها الحكومة الأوكرانية والحكومة الأمريكية وحكومات العالم الحر والمتمثلة فى رفض غزو أراضى الغير ورفض احتلالها بالقوة ورفض الانتقاص من السيادة الوطنية للدول المستقلة.
• • •
غير أن زيلينسكى، وهو حصل فى زيارته لواشنطن على نظم عسكرية إضافية وتعهد بمساعدات مالية إضافية (٦٠ مليار دولار) تتجاوز مجمل ما وعدت به الولايات المتحدة القارة الأفريقية مؤخرا أثناء انعقاد القمة الأمريكية ــ الأفريقية (٥٥ مليار دولار)، كان عليه أن يدرك أن القوة العظمى الداعمة له ولبلاده لم تلتزم فى الكثير من سياساتها الخارجية بقيم رفض الغزو والاحتلال والانتقاص من السيادة.
لن أعود إلى وراء حروب الولايات المتحدة فى آسيا (كوريا وكمبوديا وفيتنام ولاوس) وتدخلاتها العسكرية المتكررة فى أمريكا اللاتينية وأفريقيا فى النصف الثانى من القرن العشرين. فقط سأذكر بما حدث خلال العقدين الماضيين من غزو لأفغانستان والعراق وحملة عسكرية على ليبيا وهجمات لم تتوقف فى اليمن وسوريا ومنطقة الساحل فى غرب أفريقيا للتدليل على أن التعامل الأمريكى مع القيم العالمية التى أشار إليها زيلينسكى تغيب عنه المصداقية ويتسم بالانتقائية البالغة والمعايير المزدوجة.
بل إن غياب المصداقية والانتقائية والمعايير المزدوجة تصبغ كصفات أساسية السياسة الخارجية للتحالف الغربى الذى تقوده الولايات المتحدة بأدواته العسكرية (حلف الناتو) والاقتصادية والمالية (مجموعة الدول الصناعية السبع).
يعلن صناع القرار الأمريكيون والأوروبيون أن دعمهم لأوكرانيا يترجم رفض بلادهم المبدئى والفعال للغزو والاحتلال، بينما هم ومنذ عقود طويلة بين مدافع عن ومتجاهل للغزو والاحتلال الإسرائيليين لمرتفعات الجولان السورية وللضفة الغربية الفلسطينية ولاحتلال ثم حصار قطاع غزة الفلسطينى.
ينتقد الأمريكيون والأوروبيون عجز مجلس الأمن الأممى عن استصدار قرار إدانة للغزو الروسى لأوكرانيا بسبب توظيف موسكو لحق الفيتو، بينما هم ومنذ عقود طويلة يستخدمون حق الفيتو الأمريكى والبريطانى والفرنسى للحيلولة دون إدانة الغزو والاحتلال الإسرائيليين والاستيطان الممنهج فى القدس الشرقية والضفة الغربية.
يطالب الدبلوماسيون الأمريكيون والأوروبيون اليوم بإصلاح الأمم المتحدة وتعديل ميثاقها لتجاوز عقبة الفيتو الروسى (والصينى أيضا) وتنشيط دورها لحفظ السلم والأمن الدوليين، ويتناسون أن الغرب ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية فى ١٩٤٥ هدد مرارا وتكرارا السلم والأمن فى العالم بتدخلاته العسكرية وحال دوما موظفا للفيتو الثلاثى لواشنطن ولندن وباريس دون إدانة أفعاله أو محاسبة المسئولين عنها ووقف المنظمة الدولية وبين الاضطلاع بدور حقيقى ومستقل.
كذلك لا تقف صفات غياب المصداقية والانتقائية والمعايير المزدوجة التى تصبغ السياسة الخارجية للتحالف الغربى عند حدود المواقف من الغزو والاحتلال، بل تمتد إلى مجمل التعامل مع الصراعات الدولية وسبل حلها حين تنشب واستخدامات القوة العسكرية فى هذا الصدد.
• • •
تاريخيا ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تبلور داخل التحالف الغربى تفاوت بين موقف أمريكى ــ بريطانى لا يخشى التورط فى صراعات دولية ويفضل توظيف الأدوات العسكرية لحسمها وبين موقف فرنسى ــ ألمانى يتحفظ على استخدام السلاح ويفضل الأدوات الدبلوماسية، حوارا ووساطة وتفاوضا واتفاقا، لحل الصراعات. هكذا على سبيل المثال ذهبت القوات الأمريكية والبريطانية لغزو العراق فى مارس ٢٠٠٣، بينما رفض الفرنسيون والألمان التدخل العسكرى وامتنعوا عن تأييد حلفائهم.
أما اليوم وبالنظر إلى مجمل المواقف الغربية، فإن التفاوت بين نزوع الأمريكيين والبريطانيين إلى السلاح وبين التحفظ الفرنسى والألمانى وتفضيل الأدوات الدبلوماسية يكاد يتلاشى بالكامل. بل إن ألمانيا ما بعد النازية التى صاغت سياستها الخارجية منذ النصف الثانى من القرن العشرين كقوة سلام وامتنعت عن توريط سلاحها فى مناطق الصراع، صارت حكومتها (وهى حكومة ذات أغلبية يسارية، وحزبها الأهم وهو الحزب الاشتراكى الديمقراطى صاغ تاريخيا سياسة الانفتاح على الشرق المتمثل ماضيا فى الاتحاد السوفييتى وحاضرا فى روسيا) تعلن يوميا عن تقديم دعم عسكرى إضافى لأوكرانيا ويضغط عليها الإعلام (بشقيه الليبرالى واليسارى) لإرسال دبابات وعتاد ثقيل إلى الجبهة الأوكرانية.
تبدل الموقف الرسمى الألمانى من رفض استخدام السلاح وتفضيل الدبلوماسية إلى توظيف للأدوات العسكرية واستخفاف بتداعياتها وانسحاب كامل من جهود الحوار والوساطة والتفاوض التى ميزت سياسة برلين الخارجية ونجحت من خلالها أكثر من مرة فى منع نشوب صراعات مسلحة وحروب على الأراضى الأوروبية. اليوم ينقلب صناع القرار الألمان ومعهم أغلبية الحكومات الأوروبية على اختيارهم التاريخى للسلم والأمن فى العالم منذ انتهت الحرب العالمية الثانية، ويركضون وراء الأمريكيين فى عسكرة الصراعات الدولية وتجاهل فرص حلها سلميا دون سلاح ودمار.
لا تعفى غلبة النزوع الغربى نحو استخدام السلاح فى الصراعات الدولية الحكومة الروسية لا من المسئولية الكبرى عن الحرب الدائرة فى أوكرانيا ولا من تداعياتها الكارثية على العالم اقتصاديا وماليا وأمنا غذائيا وإنسانيا. غير أن استسهال الغربيين توظيف السلاح والنظم العسكرية ينزع عنهم هم حق الحديث والفعل عالميا كحماة السلم والأمن الدوليين، مثلما ينزع عنهم غياب المصداقية فيما خص قيم رفض الغزو والاحتلال والانتقاص من السيادة الوطنية حق انتقاد الدول غير الغربية الرافضة اليوم للإدانة الأحادية للغزو الروسى لأن أعمال غزو واحتلال كثيرة أخرى امتنعت الولايات المتحدة والدول الأوروبية عن إدانتها فى الماضى.
مر زمن إلقاء الأمريكيين والأوروبيين لدروس فى القيم العالمية، ولن يعود.