وقف إطلاق النار.. ومستقبل الحكم فى فلسطين
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 23 ديسمبر 2023 - 9:27 م
بتوقيت القاهرة
بعد مفاوضات امتدت لأكثر من أربعة أيام، صدر أخيرا عن مجلس الأمن الدولى قرار بشأن المحرقة التى تنزلها إسرائيل بغزة وسكانها منذ سبعة وسبعين يوما. قرار مجلس الأمن السابق حول المحرقة فى غزة كان القرار رقم 2712 الصادر فى 15 نوفمير الماضى، والذى نص على «توقف إنسانى» لإطلاق النار، وهو ما حدث فعلا لفترة ستة أيام استؤنف بعدها القصف المستعر على سكان غزة فتعدى عدد قتلاهم العشرين ألفا غير عشرات الآلاف من الجرحى، وتهدم البيوت والمستشفيات، والتكسير العمدى للأواصر المجتمعية. قرار 15 نوفمبر كان عن امتناع مؤقت لإطلاق النار. أما وصفه «بالإنسانى» فهو لأنه اقترن بإطلاق سراح عدد من المحتجزين الإسرائيليين لدى «حماس» وغيرها من الفصائل الفلسطينية فى غزة، فى مقابل إطلاق سراح عدد من المحتجزين الفلسطينيين فى سجون إسرائيل. وهو توقف «إنسانى» أيضا لأنه سمح بدخول مساعدات محدودة من الغذاء والدواء والوقود وغيرها من المواد ذات الضرورة الملحة إلى غزة. غير أن وصف التوقف «بالإنسانى» يمكن فهمه أيضا على أنه إنكار لأن يكون قرارا اتخذ لاعتبارات سياسية. بهذا المعنى، الاعتبارات السياسية لا تفرض الامتناع المؤقت عن إطلاق النار بل هى الجوانب الإنسانية وحدها التى تستدعيه. أما الاعتبارات السياسية لدى إسرائيل والولايات المتحدة، يؤيدهما فيها عدد محدود من الدول، فهى ضرورة القضاء قضاءً مبرما وتاما على «حماس».
القرار الجديد
عند صياغة مشروع القرار الذى تبنته الإمارات العربية المتحدة، كان هدف المجموعة العربية فى الأمم المتحدة هو الوقف العاجل والدائم للأعمال القتالية للسماح بوصول المساعدة الإنسانية بدون عوائق إلى قطاع غزة وحماية سكانه الذين أفلتوا حتى الآن من الحمم الإسرائيلية. غير أن القرار الذى صدر أسقط تماما وقف إطلاق النار من بين أحكامه، مكتفيا فى نهاية فقرته الثانية بالمطالبة «بإنشاء شروط إنهاء العمليات العدائية»، من دون حتى أن يبيِّن من هم المطالبون بإنشاء هذه الشروط.
التفاوض الذى جرى بشأن مشروع القرار أدّى إلى انحراف القرار عن مبتغاه الأصلى. كان هذا هو ثمن الحيلولة دون أن تمارس الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) عند التصويت على المشروع. وهذا هو الذى جعل المندوب الأمريكى الدائم المناوب يصرح بأن القرار هو بشأن الاحتياجات الإنسانية لقطاع غزة وليس بشأن وقف إطلاق النار، وكأنما وقف إطلاق النار ليس أول الاحتياجات الإنسانية. محصلة القرار هو استمرار قصف غزة وإدخال المساعدات «الإنسانية» إليها فى الوقت نفسه. لولا أننا بصدد مأساة لتساءلنا إن لم تكن أمامنا مسرحية من مسرحيات العبث، أو اللامعقول.
من سابق مواقف الولايات المتحدة ومما رشح عن عملية التفاوض أنها لا تقبل بالوقف الدائم للأعمال القتالية، كما أنها تستنكر عدم ذكر «حماس» بالاسم وإدانتها، والموضوعان مرتبطان. حجة الولايات المتحدة ومن يذهب مذهبها أن الوقف الدائم للأعمال القتالية معناه أن هياكل «حماس» وقواتها وأسلحتها ستبقى على ما هى عليه، لتعود «حماس» إلى انتهاك أمن اسرائيل وارتكاب مثل ما ارتكبته يوم السابع من أكتوبر الماضى. هدف الولايات المتحدة هو القضاء المبرم والتام على «حماس» بتمكين اسرائيل من مواصلة وحشيتها تجاه الشعب الفلسطينى فى غزة.
بصرف النظر الآن عن القرار لننظر فى هدف الولايات المتحدة، وقبلها إسرائيل، وفى منطقهما المعتل.
بأى مقياس ستقيس إسرائيل، ومعها الولايات المتحدة، أنها حققت هدفها؟ هل هو بقتل زعماء «حماس» ومقاتليها أو بالقبض عليهم والاستيلاء على أسلحتهم؟ إسرائيل لا تعرف بدقة عدد مقاتلى «حماس» ولا ما هى أسلحتهم، وهى أسلحة دلّت الشواهد على أن «حماس» تصنع بعضا منها فى غزة نفسها. كيف يمكن إذن لإسرائيل التحقق من بلوغ هدفها؟ ربما قررت «حماس» فى لحظة ما أن تباعد بين مواجهاتها للقوات الإسرائيلية أو بين إطلاقها للصواريخ فى اتجاه الأراضى الإسرائيلية. ربما كانت النتيجة لجوء إسرائيل إلى ما تنتهجه الحركات المتعصبة المتطرفة فى كل مكان، سواء كان تعصبها أيديولوجيا أو دينيا أو قوميا، وهو ممارسة المزيد ثم المزيد ثم المزيد من العنف لتحقيق هدف متحرك كالسراب. الهدف الإسرائيلى الأمريكى هدف خطير لأنه يؤدى إلى انتهاج نهج عنف متصاعد لا ينتهى. نتيجة ثانية ممكنة لقصف إسرائيل المستمر، هو أن تقرر «حماس» إسكات سلاحها بشكل مؤقت. هل تكون إسرائيل قد حققت هدفها بهذا الشكل؟
يمكن «لحماس» أن ترجع لاستخدام سلاحها بعد توقفها المؤقت غير المعلن عنه. ثم بافتراض أن إسرائيل استطاعت بعد قتل خمسين ألفا أو ستين ألفا من سكان غزة أن تقضى على «حماس» وأن تسكتها تماما، أفلن تكون قد أنتجت حركة مقاومة أخرى ومقاتلين جددا، وأثارت لدى الشعوب العربية المحيطة بغضا، وهو ما يجعل من عيشها فى سلام فى المنطقة واندماجها فيها مسألة شبه مستحيلة إن لم تكن مستحيلة؟ أليست الغاية الاستراتيجية لإسرائيل منذ إنشائها أن تكون مقبولة فى المنطقة، ليس فقط قانونيا، بل إنسانيا أيضا؟ هدف إسرائيل، والولايات المتحدة، لا يمكن تحقيقه والتأكد من تحققه، وبافتراض نجاحها فى تحقيقه فإن المنهج المتبع لبلوغه ضد مصلحة إسرائيل ذاتها.
الأمن فى المنطقة ومستقبل الحكم فى فلسطين
حجة إسرائيل فى إصرارها على القضاء على «حماس»، مستهينة بحياة عشرات الآلاف الذين تقتلهم أو تشوههم أو تجرحهم، هو أن هذا هو السبيل لتحقيق أمنها. كما ورد فى الفقرة السابقة، هذا لا يحقق لها الأمن بل يجدد المقاومة لسياساتها ولمنهجها. السبيل لتحقيق أمن إسرائيل، هو الاعتراف بحق الشعب الفلسطينى فى تقرير المصير وفى العيش فى النظام السياسى الذى يختاره لنفسه. إن كان فى دولة مستقلة، فى غزة والضفة الغربية كاملة، قابلة للحياة، عاصمتها القدس الشرقية، فيما يعرف بحل الدولتين، فليكن ذلك. من شأن مثل هذا السبيل أن يقى الشعب الفلسطينى عنف إسرائيل، قمعها له وتعديها على أرضه وموارده، والتنكيل ببناته وأبنائه وسجنهم وقتلهم، وبالتالى أن تتلاشى أسباب حنقه على إسرائيل وممارسة العنف المضاد فى حقها. الشعب الفلسطينى ــ ممثلا سواء فى منظمة التحرير الفلسطينية، بتشكيلاتها المختلفة، أو فى «حماس» ــ قبل بإنشاء دولة فلسطينية على الأراضى الواقعة على الجانب العربى من خطوط الرابع من يونيو سنة 1967، وهو ما يعنى القبول بوجود إسرائيل. حجة أن «حماس» تريد القضاء على إسرائيل هى حجة واهية، لا يمكن أن يعززها إلا الاحتلال وتَجَبُّر اسرائيل. تخلى اسرائيل عن تجبرها واعترافها بحق الشعب الفلسطينى فى تقرير المصير وتفكيك أسباب غضبه من شأنها أن تحقق الاستقرار للشرق الأوسط والأمن لكل دوله لتتمكن من الانخراط فى عمليات التنمية الضرورية لشعوبها.
وقف إطلاق النار، أيا كانت تسميته، والتصدّى لمستقبل الحكم فى فلسطين لا بدّ أن يتلازما. الحديث دار فى الأيام الأخيرة عن ترتيبات لحكم غزة بعد انتهاء الحرب فيها، تتصور إدارة عربية أو دولية، أو وضعها تحت وصاية الأمم المتحدة، ونشر قوات عربية أو دولية فيها. الدول العربية استبعدت فكرة إدارتها لغزة وهى حسنا فعلت. المهم هو عدم الاستمرار فى النقاش بشأن إدارة غزة بدون ذكر للضفة الغربية والوحدة بينهما ومعهما القدس الشرقية. مفهوم أن غزة ستحتاج إلى ترتيبات وموارد هائلة تستدعى وقتا وانشغالا مضاعفين. ولكن هذه الترتيبات ومستقبل الحكم فى كامل فلسطين ينبغى أن يندرجا فى خطة واحدة تعطى الأمل للشعب الفلسطينى وإن نفذت على مراحل محددة، على ألا تكون فترة مجمل المراحل طويلةً. من الأفكار التى نشأت قبل الأيام الأخيرة عودة السلطة الفلسطينية إلى تولى مسئولية الحكم فى غزة. من مزايا هذه الفكرة أنها تؤكد وحدة غزة والضفة الغربية. غير أن ما يعترض تحقيقها الفعال هو انخفاض مصداقية السلطة لدى الشعب الفلسطينى. السبيل إلى تدعيم هذه المصداقية وتعزيز شرعية السلطة الفلسطينية هو توسيع تشكيلها لتدخله عناصر فنية شابة، ولكى تنضم إليه بعض شخصيات الجناح السياسى «لحماس» نفسها. مثل هذا الانضمام لا يعزز شرعية السلطة فقط بل إنه يحدُّ من أى اتجاه إلى العنف إن وجد، خاصةً إذا تخلت إسرائيل أيضا عن ممارسته. ليس فى انضمام مثل هذه الشخصيات إلى سلطة ستنخرط فى عملية سياسية ما يصدم. ألم تتفاوض الحكومة البريطانية مع الجيش الجمهورى الإيرلندى فى إيرلندا الشمالية، وألم يكن رئيس جمهورية كولومبيا الحالى عضوا فى إحدى حركات الكفاح المسلح فى بلاده؟
لكل من الشعب الفلسطينى، والدول العربية المعنية مباشرة، والمجتمع الدولى، الممثل فى مجلس الأمن أو فى الجمعية العامة للأمم المتحدة، أدوار فى تصميم الخطة وتطبيقها. وعلى الدول الصديقة لإسرائيل، خاصة الكبرى من بينها، أن تقنع إسرائيل أن مثل هذه الخطة فى صالحها وفى صالح أمنها واستقرارها، وأنه ينبغى عليها أن تشترك فى إنجاحها. إسرائيل ليست الحكومة المتعصبة المتطرفة الحالية وحدها، أو هكذا، بالتأكيد، نأمل.
على الدول العربية المعنية أن تحث الدول الكبرى على أن تتحدث مع إسرائيل وأن تضغط عليها، إن لزم الأمر، وهو سيلزم.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة