فى الذكرى المئوية لمؤسسة ثقافية رفيعة
جلال أمين
آخر تحديث:
الجمعة 24 يناير 2014 - 2:25 م
بتوقيت القاهرة
يعتبر الأوروبيون أن من واجبهم فى هذا العام، أن يحيوا ذكرى حدوث شىء فظيع، منذ مائة عام، هو نشوب الحرب العالمية الأولى فى 1914، التى لم ينتج عنها إلا الخراب والدمار، وكان من ضحاياها 16 مليون قتيل و20 مليون جريح. أما نحن المصريين، فمن واجبنا أن نحيى ذكرى حادث سعيد للغاية، حدث منذ مائة عام أيضا، وكانت نتيجته نشر الثقافة الرفيعة فى مصر والعالم العربى لمدة تقرب من نصف قرن.
كان هذا الحادث السعيد هو اجتماع عدد من المثقفين المصريين، قرروا أن يفعلوا شيئا للنهوض بحالة الثقافة والمعرفة فى بلادهم، وتقريب النهضة العلمية والأدبية الأوروبية إلى أيدى المصريين وبقية العرب، فأنشأوا جمعية فى سنة 1914 سموها «لجنة التأليف والترجمة والنشر» كتب عنها واحد من مؤسسيها، بعد خمسين عاما من إنشائها، فى وصف طريقة تكوينها وتطورها، على النحو التالى:
«سنّ قانونها أحد الأعضاء القانونيين، وقُرئ على الأعضاء مجتمعين، وعُدل ونُقح. والتزم كل عضو أن يدفع عشرة قروش فى كل شهر، وأن يجتمع مجلس إدارتها فى بيت عضو من أعضائها.. فإذا لم يكف ما جمع من عشرات القروش أقرض اللجنة بعض الأغنياء من الأعضاء ليتم طبع الكتاب، فكان هذا أول حجر فى بناء اللجنة.. وقد طبعت من الكتب (حتى 1953) أكثر من مائتى كتاب، وكانت لا تقرر كتابا إلا إذا حولته على اثنين خبيرين بالموضوع يبديان فيه رأيا بالصلاحية أو عدمها أو حاجته إلى التعديل.. وأسست لها مطبعة خاصة، كما أسست مجلة اسمها «الثقافة» استمرت نحو 14 عاما.. ونمت مالية اللجنة من هذه العشرات من القروش ومن الأرباح من الكتب حتى بلغت أكثر من ستين ألفا من الجنيهات (فى 1953).. وأخيرا وبعد أن وقفت على رجليها منحتها الحكومة مبلغا من المال يقرب من تسعمائة جنيه كل سنة، أفردناه فى دفاتر خاصة، وطبعنا به كتبا خاصة نبيعها بتكاليفها تقريبا، وتحاسبنا الوزارة على هذا البند وحده» (أحمد أمين: حياتى، دار الشروق، 2008، ص 117 ــ 118).
لعبت هذه اللجنة دورا مبهرا فى نشر الثقافة، فى مصر والعالم العربى فى مختلف فروع المعرفة خلال فترة ما بين الحربين. (قال لى مثقف يمنى عندما زرت صنعاء منذ ثلاثين عاما، أن نسختين من مجلة الثقافة كانتا تصلان إلى صنعاء فيتبادلهما المثقفون اليمنيون من صنعاء إلى تعز، ثم تعودان إلى صنعاء وقد بليت صفحاتهما من كثرة الأيدى التى تداولتهما). ثم أخذت اللجة تذوى وتضعف بعد الحرب العالمية الثانية، (لأسباب يطول شرحها) حتى أغلقت أبوابها فى أواخر الخمسينيات ولم يبق منها إلا المطبعة.
كان مؤسسو اللجنة ينتمون إلى مختلف التخصصات والميول والاتجاهات ولكن كان تجمع بينهم سمتان مهمتان: الأولى الشعور القوى بالحاجة إلى تقديم أفضل ثمار الفكر الغربى الحديث باللغة العربية، سواء بالترجمة أو التأليف. والثانية أنهم كانوا يجمعون بين المعرفة الحميمة بالتراث العربى والإسلامى وبين الاطلاع على الثقافة الغربية الحديثة، ويحملون تقديرا عميقا لكلتا الثقافتين. وقد أكسبتهم معرفتهم الوثيقة بالتراث، واحترامهم للغتهم القومية، القدرة على التعبير عن معارفهم المكتسبة من اطلاعهم على العلم والأدب الغربيين، بلغة عربية جميلة. فإذا ترجموا بعض الانتاج الغربى فى مجال تخصصهم انتجوا ترجمات دقيقة وواضحة ترقى أحيانا إلى مستوى الأعمال الأدبية.
كان عدد كبير من أعضاء لجنة التأليف والترجمة والنشر من خريجى تلك المدرسة العتيدة، مدرسة المعلمين العليا، التى كانت تعد خريجيها للتعرف على الثقافتين العربية والغربية، وهى تجربة ما أجدرنا بدراستها من جديد دراسة فاحصة لنعرف سر قدرتها على تخريج هذا النموذج الفريد من المثقفين المصريين.
أتاح منهج البحث العلمى المستمد من قراءة كتب الأوروبيين عن الحضارة العربية والإسلامية وغيرهما من الحضارات، لهذا الجيل الفذ من المثقفين من المصريين أن يطبقوا هذا المنهج العلمى الذى فهموه واستساغوه، على التراث العربى والإسلامى، فأنتجوا أعمالا فريدة أيضا فى دراسة هذا التراث، يجمع بين احترام الذات واحترام العلم. ولكن اللافت للنظر أن هذه الفترة من تاريخ الثقافة المصرية (1914 ــ 1945)، لم تشهد فقط قفزة جبارة فى الكتابة الأدبية والتاريخية، بل وفى مختلف أنواع الفنون: فى المسرح والسينما والموسيقى والغناء والنحت. كما نلاحظ أنه فى كل هذه الفروع، جمع المثقفون والفنانون المصريون بين احترامهم لتراثهم وبين تقديرهم للأساليب الجديدة فى الثقافة والفنون الغربية، فأنتجوا أعمالا جديرة بالبقاء، ولاتزال تخلب ألبابنا بجمالها حتى اليوم.
•••
كان الاتجاه الغالب لدى الجيل السابق على جيل ما بين الحربين العالميتين، إذا كتب فى التاريخ، قبول كثير من الخرافات التى لا يستسيغها العقل، كما كانوا يكتبون، أيا كان الموضوع، بلغة عربية مليئة بالمحسنات البديعية، وتهتم باللفظ أكثر مما تهتم بالمعنى، فيسمح كاتبها لنفسه بالاطالة والتكرار، إذا استلزمت ذلك ضرورات السجع أو البلاغة اللفظية. فإذا بهذا الجيل الذى نتكلم عنه، يحرّر اللغة كما يحرّر العقل. قارن كل ذلك بما ينشر الآن لجيل من المثقفين وأساتذة الجامعات، قضوا فى الغرب مددا أطول مما قضاه جيل ما بين الحربين، وحازوا من شهادات الغرب أكثر مما حازه ذلك الجيل، فإذا بهم إذا كتبوا كانوا أقل إبداعا، وأقل فصاحة، وأضعف لغة. كيف يمكن لنا أن نفسر ذلك بغير تلك الصفة الفريدة التى اتسم بها جيل ما بين الحربين: الجمع بين أفضل ما بين الثقافتين؟
•••
كم تبدو لنا ذكرى «لجنة التأليف والترجمة والنشر» لنا اليوم، بعد مرور مائة عام على إنشائها، كالنسيم اللطيف فى يوم شديد الحرارة. إننا نسمع كلاما كثيرا اليوم عن «المصالحة»، فلماذا لا نعتبر بما أدركه ذلك الجيل الرائع من المصريين، منذ مائة عام، من ضرورة التصالح بين الثقافتين، ثقافتنا العربية الإسلامية وثقافة العالم المتقدم علميا وصناعيا؟ إن المصالحة المطلوبة ليست مصالحة فى السياسة وفى توزيع مقاعد البرلمان، بل هى المصالحة بين ثقافتين يأبى أصحاب كل منهما الإنصات لأصحاب الثقافة الأخرى. فبدلا من أن يكتشف كل منهما أوجه القوة فى الآخر، يرمى كل منهما الاخر بالحجارة والرصاص.
ما أشد تعاستنا إذن إذا لم نتأمل تجربة ذلك الجيل الرائع من المثقفين المصريين، ونكتشف أسباب نجاحهم الباهر فيما فشل فيه جيلنا نحن فشلا مخزيا.