إليك «الحياة الطبيعية» في بلادي أو «الرجاء البحث عن بلد آخر تعيش فيه»

مواقع عربية
مواقع عربية

آخر تحديث: الأحد 24 يناير 2021 - 9:25 م بتوقيت القاهرة

نشر موقع رصيف 22 مقالا للكاتب يوسف نبيل نعمان، يصف فيه أحوال بلاده المنكوبة ــ سوريا ــ من خلال زيارات قام بها لكل مدينة هناك مثل (اللاذقية ــ حمص ــ الحسكة)، كما قال إن «الحال الطبيعى السورى» أصبح حال القتل والدمار، الفساد، انتشار الزى العسكرى، تملك الاكتئاب من روح الشباب والشابات، بينما يقول إن الحدث غير الطبيعى هو رؤية العلم السورى وحده يرفرف على أرض سوريا... جاء فيه ما يلى:

الحياة الطبيعية هى أحد أقل المتطلبات التى يحتاج إليها الإنسان للاستقرار والسعى من أجل تحقيق أهدافه، تختلف أشكالها بحسب قدرة البيئة الجغرافية التى يسكن فيها الفرد، كما أن متطلباتها تطورت مع التقدم الحضارى والزمنى.
ندخل عام 2021 فى بلادنا ونبحث فيما بيننا عن المعنى الحقيقى لكلمة «طبيعى». كنا ننتظر انتهاء القتال والرصاص لنعيش الجزء المهم من شبابنا بوضعه الاعتيادى مع نظيره فى كل الأماكن، نراقب الأخبار باهتمام بالغ لنسمع تطورات الأوضاع وهل بقى لدينا الكثير لنسترجع ما فاتنا؟!
خلال السنوات العشر الأخيرة، قمت بزيارات كثيرة إلى العديد من المحافظات السورية، بعضها بسبب العمل وبعضها الآخر للوصول إلى ما تبقى من «جزء سياحى» فى سوريا، كل محافظة أو مكان فى هذه البلاد نال نصيبه من الحرب، لم يتساوَ الجميع بكمية الضرر، منهم من كان ضرره يقتصر على الأشياء المادية فقط، ومنهم من كان ضرره بشريا بحتا إن كان «الموت أو الهجرة»، كل منهم خسر بشكل مختلف عن الآخر، وكل مكان من هذه الأماكن قادر أن يمدك بخساراته وقادر أن يجعلك جزءا منه بشكل أو بآخر، إما بذكريات أو بأحاديث جميعها تصب فى طرف واحد ولصالح جهة واحدة.
ضمن كل هذه الأحداث والتغييرات التى طرأت على هذه المدن وتقديمها لـ«حياتها الطبيعية» بالشكل الذى رسمته لنفسها، بقى هنالك عدة أماكن لم تستطع العودة لحياتها الطبيعية حتى يومنا هذا. وبإمكانك معرفة «حياتها الطبيعية» بجولة وحيدة فيها، قد لا تحتاج لأكثر من حديثين مع أهلها لتعلم أن لا شىء بإمكانه تقديم هذا المكان بالشكل الذى أراد أن يكون به.
***
بداية من العاصمة دمشق التى حتى يومنا هذا لم تلتزم تجاه سكانها بأى من واجباتها، من السهل رؤية ما يدور فى بال سكانها من خلال التجاعيد المبكرة الظاهرة فى وجوههم، تقدم دمشق مجموعة من «الانفلوانسر» الذين يرون البلاد خلف شاشاتهم بوضع طبيعى جدا، لا يعرفون عن التأثير فى الناس سوى من خلال ماركات الملابس والمكياجات، أغلب الإنتاجات السينمائية هى لمجموعة محددة من الأشخاص، أصبح من غير الطبيعى ألا ترى خلال السنة الواحدة أكثر من إنتاج واحد لشخص محدد، كما أنه من غير الطبيعى ألا تكون أعمال الدراما تتحدث عن الحرب.
الازدحام على كل مطلب بشرى هو شىء طبيعى، اللباس العسكرى فى الشوارع هو أحد أشكال الحياة الطبيعية، إمكانية أى شخص فى سوريا أن يطلب هويتك هو أحد الأشكال الطبيعية كذلك.
الفساد أصبح من الأشياء الأكثر ثباتا فى بلادنا، تتعامل معه وكأنه واجب ومسئولية يجب تحملهما، 500 ليرة سورية ما يعادل ربع دولار أمريكى هى القيمة التى تستطيع من خلالها أن تتجاوز كل حواجز التفتيش بالبلاد، ترتفع هذه القيمة بحسب المكان والمؤسسة التى تقوم بها بأى «معاملة». قبل سنة عملت على إصدار جواز سفر، قبل ذهابى تلقيت نصائح عديدة، واشتركت بنصيحة «اصرف شى 10000 ليرة خليهم من فئة 200 مشان تخلص وراقك بنفس اليوم» وبالفعل كانت النصيحة فى مكانها ولكن القيمة ارتفعت من 200 إلى 1000 ليرة.
فى قرارة نفسى أحاول أن أبرر لهم بسبب سوء الراتب الشهرى لموظف الدولة وعدم مجاراته لأى زيادة فى سعر الصرف، الطبيعى أن الدهشة لم تعد تتملكك عند قيامك بهذا الفعل.
لم تعد تستنكر أى رواية من أى شخص، الخطف والسرقة وعدم الأمان أصبحت من مكونات الحياة، ما الغريب فى أن تجعل من جامعتك سبيلا لهروبك من خدمة العلم؟ الحقيقة لا شىء غريبا، أصبح الرسوب فى الجامعة أحد الحلول الطبيعية التى نستخدمها لحماية أنفسنا من أن نكون وقودا فى ساحات القتال ضمن البلد.
***
الاكتئاب يسكن فئة الشباب كما أنه محور ما يمرون به نتيجة انعدام الخيارات، أن تكون فى سهرة ما ويعطيك أحد الموجودين حبوبا مخدرة حدث غير غريب، تداول سيجارة الحشيش فى العلن هو ضمن هذه الأحداث الطبيعية.
قلة فرص النجاة تدفع بالشباب السورى للتقديم على كل المنح الدراسية خارج هذه البلاد على الرغم من معرفته بأن النسبة الكبيرة من الأسماء المقبولة تكون قد حددت مسبقا من الجانب السورى المسئول عنها.
من غير الطبيعى ألا يكون هنالك على وسائل التواصل الاجتماعى حدث مشترك نتكلم به كلنا، ومن غير الطبيعى ألا تجد شابا سوريا يدرس اللغة الألمانية تحضيرا لسفره ــ ستصبح إحدى اللغات التى نتكلم بها قريبا جدا إلى جانب العربية ــ من الطبيعى أن يكون تفكير أى شاب أو فتاة حين بلوغ الـ18 غير متوقف عند الدراسة فقط وإنما يجب التفكير فى مصدر دخل.
لم يعد مشهد المروحيات الروسية والأعلام الخاصة بها المنتشرة فى طرطوس حدثا غير طبيعى، إنه يمر مثله مثل وجبة الفطور فى اليوم بنفس الأهمية، تدخل حلب ولا تستطيع أن تتخيلها بدون «كابلات الأمبيرات» التى أصبحت جزءا من الهوية البصرية الخاصة بالمدينة، لا يمكنك أن ترسم فى خيالك زيارتك أحد المحال وتجد سعر إحدى السلع انخفض، من غير المعقول أن تمشى فى مدينة حمص دون مرافقة الدمار الذى يشكل أكثر من نصف المدينة، لا تستطيع العيش فى مدينة اللاذقية دون أن تتخيل وجود شخص بإمكانه أن يمحوك من الوجود إن لم يعجبه شكلك على أقل تقدير، قد تبدو لك مدينة الحسكة إحدى المدن المضيفة لكأس العالم نظرا لكثرة أعلام الدول التى تراها فيها.
***
هذه بعض النماذج التى أصبحت تتسم بها «حياتنا الطبيعية» ونحاول أن نخرج منها بأقل الخسائر، مضت فترة طويلة على أى حياة طبيعية قد عشناها، أصبح برنامجنا اليومى منظما ولا نتوقع أكثر مما يجرى، سقف التوقعات الخاص بنا أصبح ضئيلا، تم العمل عليه ليكون فقط «من الموجود جود» مع التمنى ألا يكون أسوأ.
لم نعتقد يوما أن يكون للحرب كل هذا التأثير فى الشخصية التى نبنيها، اختلفت كل الظروف وكل العوامل المؤثرة التى من الممكن أن تنجينا يوما ما.
الحدث غير الطبيعى بالنسبة لى هو أننا احتجنا إلى 10 سنين لندرك ما حدث، وأصبحت أقل المطالب لنا رؤية علم بلادنا هو الوحيد الذى يرفرف داخلها.
كل ما يحصل «طبيعى» وأى اعتراض يتم الرد عليه بـ «الرجاء أن تبحث عن بلد آخر تعيش فيه» أو عليك أن تتأقلم معها لأن فى رأى محمود درويش «أكبر تنازل تقدمه فى حياتك هو أن تتأقلم»، لقد بلغنا أقصى قيمة للتنازل وتأقلمنا.
فى بلادى هذه هى الحياة الطبيعية التى نملكها، ذلك الظلام المنتشر فيها بكثرة هو أحد أبرز الألوان التى تشكل صورتها العامة.

النص الأصلى:من هنا

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved