صناعة النهضة
عماد الغزالي
آخر تحديث:
الإثنين 24 فبراير 2014 - 5:15 ص
بتوقيت القاهرة
هذا المقال نشر بهذه الزاوية فى 22 أكتوبر 2012، واليوم أعيد نشره لأذكركم وأذكر نفسى بمغزاه، فاقرأ وتدبر..
حدث فى زمن محمد على الكبير، أن ضرب طالب فى مدرسة الألسن برتبة يوزباشى ناظرها رفاعة الطهطاوى، وينص القانون فى هذه الحالة على تنزيل رتبة الطالب وسجنه 5 سنوات، لكن مختار بك المدير الأول لنظارة المدارس اكتفى بتنزيل الطالب رتبتين.
بلغ الأمر محمد على فتساءل لماذا لم يطبق القانون، فأخبره مختار بك أن الطالب المخطئ كان ضمن بعثة أرسلت إلى فرنسا، وأنفقت عليه أموال طائلة، وقد رأى مدير المدرسة الاكتفاء بتنزيل رتبته دون سجنه، فرد محمد على بأن الطالب المخطئ يجب أن يجلد 300 جلدة ثم يطرد من المدرسة، وأرسل إلى مدير المدرسة رسالة يقول له فيها: «إن رفاعة بك درّب الكثيرين، وأن استرضاءه يكون أكثر ربحا من الانشغال بالمال الذى أنفق على الطالب».
على رأى صديقى عمرو سليم فإن هذه قصة ذات مغزى، والمغزى كما نرى واضحا.
الوالى الحصيف ثاقب الرأى والرؤية يعرف قدر الشيخ رفاعة، ويرى أن الاعتداء عليه جريمة لا تغتفر، وأن استرضاءه أهم من أى أموال أنفقت على طالب أحمق «قليل الرباية»، حتى لو كان من أصول تركية، وليس من أبناء الفلاحين كالشيخ رفاعة، وعليه، فقد غلّظ الوالى العقوبة، وأضاف إليها الجلد والطرد من المدرسة.
أعرف طبعا من تاريخ «العنكبوت العجوز» كما كان يلقبه الرّحالة الأجانب، أنه تصرف فى مواقف مشابهة بطريقة مغايرة، وفقا لمقتضى الحال، واتساقا مع رؤيته البرجماتية لبناء مصر الحديثة، التى عرف منذ البداية أنها لن تبنى إلا بالعلم والمعرفة، فكانت بعثاته إلى أوروبا التى شملت كافة العلوم والفنون والحرف والصنائع، وكان من ثمراتها هذا الشيخ النابه، الذى حمل مع رفاقه عبء انتقال مصر من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، وأثق تماما أنه ما كان لمصر أن تنهض من غفوتها لولا هذا «الهارمونى» ــ الذى بدا قدريا ــ بين رؤى حاكم ذكى طموح، وأفكار شاب موهوب ونابه كالشيخ رفاعة.
كان محمد على متدينا، ولذا حرص على أن يرافق طلاب بعثته العلمية شيخ أزهرى، يذكّرهم بتعاليم دينهم ويؤمهم فى الصلوات، أما الشيخ النابه، فقد رأى أن قدراته تؤهله لتجاوز هذا الإطار، فتعلم الفرنسية، وأقبل على علوم الدنيا ينهل منها فى كل اتجاه، فقرأ وترجم فى الجغرافيا والهندسة والطب والقانون والعلوم، وقدّم لنا خلاصة تجربته فى بلاد الفرنجة فى كتابه البديع «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز»، وحث على تعليم البنات فكتب لنا «المرشد الأمين للبنات والبنين»، ولم يشغله ختانهن ولا نقابهن ولا تزويجهن فى سن السابعة.
أدرك الوالى أن نهضة مصر لن تتحقق بالرجوع إلى ما كان عليه السلف، وإنما بالإقبال على علوم العصر ومنجزاته، وأدرك الشيخ أن مصر لن تتقدم لو بقى أبناؤها غائصين فى جهالتهم، منغمسين فقط فى العلوم الشرعية وخلافات الفقهاء المذهبية، دون علوم عصرهم وفنونه.
لم يكن محمد على كافرا، ولم يكن رفاعة زنديقا، كانا أصحاب بصر وبصيرة.. حمل أبناء الوالى حلمه الإمبراطورى، وحمل أبناء رفاعة مشاعل التنوير.
وكما يعلمنا التاريخ، فقد ذهب أبناء الوالى، وبقى أبناء رفاعة.
هل تريد أن تعرف لماذا تتعثر نهضتنا اليوم... ابحث عن أبناء رفاعة.