قصص على هامش السيرة الذاتية: انهيار عصبى
جلال أمين
آخر تحديث:
الثلاثاء 24 فبراير 2015 - 11:40 ص
بتوقيت القاهرة
كنت فى السادسة عشرة من عمرى عندما ذهبت إلى إنجلترا لأول مرة.
كان أخى عبدالحميد يحضر للدكتوراه فى الهندسة الكهربائية فى جامعة لندن، فقضيت معه شهرين فى صيف ١٩٥١، وأقمت فى نفس البيت الذى يقيم فيه.
كان كل شىء حينئذ يشير إلى أن أمام عبدالحميد مستقبلا سعيدا وباهرا. كان شابا فى الخامسة والعشرين، ذكيا ومرحا، ويحظى بتقدير أساتذته، ولا يشكو من ضائقة مالية أو متاعب صحية، ولديه صديقة نمساوية جميلة يحبها وتحبه وقد تزوجها بمجرد حصوله على الدكتوراه. لماذا إذن انقلبت حياته على هذا النحو، رأسا على عقب، قبل أن يبلغ الأربعين من عمره، فأصابه انهيار عصبى، وتوقف تماما عن التدريس، وجلس فى البيت لا يفعل شيئا إلا الاستماع إلى الموسيقى أو رسم بعض الصور، واستمر ذلك حتى وفاته فى سن الوحد والثمانين؟ هذا هو اللغز الذى ظل ولا يزال يحيرنى فلأحاول مرة أخرى أن أجد تفسيرا له باسترجاع ما حدث له خطوة بخطوة.
•••
ذهبت أنا مرة أخرى إلى إنجلترا، بعد تخرجى فى الجامعة، فى بعثة دراسية إلى جامعة لندن، فلما عدت إلى مصر فى إجازة قصيرة فى ١٩٦٢، وكنت فى السابعة والعشرين وعبدالحميد فى السادسة والثلاثين من عمره، لم ألحظ عليه أى شىء غريب، بل كان كل ما فى حياته يدعو إلى الإعجاب. كان يدرس فى كلية الهندسة بجامعة عين شمس، ولا يكف تلاميذه عن الثناء عليه، علما وخلقا وظرفا. وكان فى الوقت نفسه، منتدبا فى مركز للبحوث فى الدقى أنشأه عبدالناصر، فيذهب إلى هذا المركز مرتين أو ثلاث مرات فى الأسبوع ليلتقى مجموعة من الباحثين الشبان، الذين كانوا يقومون تحت إشرافه ببحوث سمعنا أن لها علاقة باستخدامات الطاقة النووية، وكانت الدكتوراه الثانية التى حصل عليها عبدالحميد من ألمانيا فى موضوع ذى صلة بهذه البحوث. كان يلتقى أيضا أستاذا روسيا جاء إلى مصر ليقدم مساعدة علمية لمصر، وقال لنا عبدالحميد بفخر: إنه يشترك مع هذا الأستاذ الروسى فى تأليف كتاب فى مجال تخصصهما، وكاد تتم كتابته.
كان فيما عدا ذهابه للتدريس فى كلية الهندسة، وزياراته لمركز البحوث، لا يكاد يغادر مكتبه فى البيت وكتبه وأوراقه. وكان كلما اشتكت زوجته من أنه لا يكف عن العمل، ولا يلقى بالا لطلباتها أو طلبات ولديه الصغيرين، يحول الموضوع إلى سبب للضحك، وقد يقلدها أحيانا فى طريقة نطقها لبعض الكلمات العربية، وهو مستغرق فى الضحك. كلا، لم يظهر لى أى سبب للتنغيص عليه، وقد عدت إلى إنجلترا بعد الإجازة، وأنا لا أتوقع له إلا المزيد من النجاح.
كان الأمر مختلفا تماما عندما عدت إلى مصر عودة نهائية بعد سنتين لم يبد لى حينئذ رجلا مشغولا على الإطلاق، فقد انقطع عن الذهاب إلى مركز البحوث، وفسر هو هذا الانقطاع بأن أجهزته التى كان يستخدمها فى البحث نقلت فجأة إلى مكان آخر دون علمه.
وانقطع أيضا عن الكلام عن الأستاذ الروسى والكتاب الذى كانا يكتبانه معا. ولم نعد نراه يجلس إلى مكتبه أو يقرأ فى كتاب، بل عبر عن عزمه، أكثر من مرة، على ترك جامعته والسفر إلى العراق ومنها إلى أمريكا للتدريس فى إحدى جامعاتها، إذ كان السفر إلى أمريكا مباشرة متعذرا عليه بسبب ما كان مفروضا قتئذ من قيود على السفر إلى الخارج. كان الأكثر مدعاة للقلق كثرة حديثه عن اعتقاده بأنه مراقب، وأن هناك من يتجسس عليه، وأن جهاز المخابرات يتعقبه كما ذكر مرة أنهم (دون أن يفصح عمن هم بالضبط) أرسلوا إليه سيارة للذهاب إلى الالتقاء بشخصية كبيرة فى المخابرات العامة، وتعمدوا أن يسلكوا به طريقا فى الصحراء حتى لا يعرف إلى أين هم ذاهبون، ومن هو الشخص الذى سيقابله، ثم أعادوا به إلى القاهرة. ولكنه لم يذكر لنا ما دار بينه وبين هذه الشخصية الكبيرة من حديث. كان إذا دق جرس التليفون، ولم يرد أحد، قال: إن هذه إحدى وسائل مضايقته والتنغيص عليه، وبدأ يشك فى أشخاص لم يشك فيهم قط من قبل.
قال أصدقاؤه إنه لابد أن أصيب بصدمة بالغة عندما توقف عمله فى مركز البحوث نتيجة نقل أجهزته لسبب بيروقراطى بحت، أو لتحقيق مصالح شخصية لضابط كبير قريب من الممسكين بالسلطة وله بعض الادعاءات العلمية، وفسروا ما حدث له بهذه الصدمة. وقالت زوجته إنه أرهق نفسه أكثر من اللازم أثناء دراسته للدكتوراه الثانية فى ألمانيا، وإن ما أصابه هو نتيجة لهذا الإرهاق.
لم أقتنع بهذا التفسير أو ذاك. وقلت لنفسى: هل الأمر يعود فى النهاية إلى درجة الصلابة التى يحملها كل منا فى داخل نفسه، ويواجه بها ما لا بد أن يمر به من أحداث، بعضها لا شك مخيب لبعض آماله؟
كان لى أخ آخر (محمد) هو أكبر إخواتى، ويكاد أن يكون هو وعبدالحميد على طرفى نقيض. كان أخى محمد أقوى إرادة وأشد عزما، طلباته مجابة لمجرد أنه لا يترك مجالا للشك فى ضرورة تلبيتها، وغضبه وانفعالاته السريعة تثير الخوف فيمن حوله. صادف محمد فى حياته، كما صادف كل منا، مصاعب وصدمات كثيرة، ولكنه بدا دائما صلبا قويا حيالها، ولم يستسلم لها بل قاومها، وكان دائما يجد وسيلة لتجاوزها. لم يكن بالضرورة فى حياته أكثر سعادة من عبدالحميد، ولكن أحداث الحياة لم تهزمه كما هزمت عبدالحميد.
تذكرت القصة التى ذكرتها فى مقالى السابق عن عبدالحميد، والتى كانت تروى المرة بعد الأخرى بين أفراد الأسرة، وتثير ضحكا كلما عدنا إلى تذكرها، وتدور حول موقف عبدالحميد من طبق البيض الذى كان على المائدة أمامنا، نمد جميعا أيدينا إليه لنأكل منه، إلا عبدالحميد، الذى وجده أبعد قليلا من اللازم، ولكنه لم يبذل جهدا لتقريبه إليه.
هل تفسير الانهيار العصبى الذى أصاب عبدالحميد هو إذن مجرد اختلاف «الجينات» التى ولد بها، عن الجينات التى ولد بها هذا الأخ الآخر أو ذاك؟ ولكن هل يصلح هذا أن يكون تفسيرا على الإطلاق أم أنه يشبه قول الأطباء لنا، إن ما نشكو منه ليس إلا نتيجة «حساسية»؟