الحنين إلى ما مر
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الجمعة 24 فبراير 2017 - 9:45 م
بتوقيت القاهرة
أجلس فى القطار، قادما من واشنطن ومتجها إلى نيو هيفن للمشاركة فى ورشة نقاشية تنظمها جامعة يل عن حال عرب اليوم. على أذناى وضعت سماعتين، ومنهما تتدفق المقدمة الموسيقية البديعة لـ«نبتدى منين الحكاية» التى لا نهاية لعشقى لها. تأخذنى عينى بعيدا عن «أرض الله الواسعة» بثلوجها القليلة وبحيراتها مترامية الأطراف وأشجارها الضخمة التى يمر عليها القطار، وتصطنع أمامى مشاهد متسارعة ومتداخلة يغلفها الحنين إلى ما مضى.
أشاهد مداعبات عبدالحليم حافظ الرقيقة لعازفى الفرقة الموسيقية، وتستدعى ذاكرتى وجوه الطبال وعازف الناى وعازفى الكمان وابتساماتهم. أتذكر جدتى لأمى حين كنا، أخوتى وأنا، نبيت عندها ونحن صغار ونرفض الاستجابة لنداء النوم. جدتى، رحمها الله ورحم أمى، كانت تأتى بصوت عبدالحليم لا أعلم من أين ثم تطفئ نور الغرفة وتهمس قائلة «عبدالحليم بيغنى تحت البيت، يلا اسكتوا وغمضوا عنيكوا واسمعوا الموسيقى الجميلة»، وبعدها يغلق الباب علينا وتنفتح لى طاقات عالم مسحور.
أرى منى الدمشقية، ساكنة باب توما، التى كانت منتصف التسعينيات تنهى دراستها لماجستير الدراسات الإسلامية والعلوم السياسية بجامعة برلين ويسبقها حين التعرف على مصريات ومصريين عشق صوت عبدالحليم والولع بمقدمتى موعود ونبتدى منين الحكاية. أشاهد وجه منى الذى كاد فى شبابه يتطابق مع وجوه وأيقونات النساء الحزانى والمكلومات على جدران كنائس الشرق، وتتردد فى ذهنى أصداء السؤال عن أحوالها الآن. أعرف أنها عادت إلى الشام بعد الدراسة وكونت أسرة واستقر بها المقام بعمل مع مؤسسة تنموية ألمانية. أمازالت حية؟ هل ارتحلت بأسرتها بعيدا عن المأساة السورية؟ هل صمدت أحلامها لوطنها أم تكسرت على وقع الدماء والدماء؟ كانت منى تسخر من ديكتاتورية حافظ الأسد القبيحة التى تخصص فنانوها وصناعها المهرة فى خط أسماء «الثالوث المقدس حافظ وباسل وبشار» ورسم وجوههم على كل جدار قائم، وتتبع ذلك بترديد مقاطع كاملة من الملك هو الملك لسعد الله ونوس ودموع عينيها تتكاثر كمدا وحسرة. أتذكر مشاكستها المتكررة لبعض زملاء الدراسة الأوروبيين معايرة إياهم بجهل وظلامية مجتمعاتهم فى القرون الوسطى التى كانت بها دمشق مركزا حضاريا مشعا، وولعها باللغة العربية وصوتها المرتفع بها فى كل تجمع طلابى. فهل بقى من حضارة الشام يا منى ما يمكن الاستشهاد به، والديكتاتور ومعه الأعوان والأعداء لا عمل لهم سوى التقتيل والتدمير وتشويه ملامح الشام الجميل؟ وهل بقى فى لغتنا ما يقدر على وصف ما يحدث لنا ومن حولنا ولا تعطله الأشلاء والجدران التى لم تعد قائمة؟
***
ما أتعس من حاولوا العمل العام خارج السياقات الحكومية فى بلاد العرب ويقتربون اليوم من خمسينياتهم. أحلام التغيير والتقدم والعدالة الاجتماعية وصون حقوق الإنسان ومواطنة المساواة دون تمييز وتداول السلطة جميعها تحطمت منذ نهاية الثمانينيات دون توقف. نحن جيل المراكب المعطلة والمجاديف المكسورة، لم نصنع انتصارات كبيرة أو نشارك فى الخروج من أزمات كبيرة، بل ولم نسهم فى إزالة القليل الذى أزيل من آثار هزائم العرب الكبيرة. وها هو يدنو ثلث العمر الأخير أو ربعه الأخير، ونحن بين أوطان لم نعد نأمن للبقاء بها ومنافى تقتلنا وتقضى على إنسانيتنا.
***
تمضى متسارعة لقطات عابرة من أمسيات الصيف مع أصدقاء الدراسة الثانوية المولعين بالطرب، وائل وهانى ومحمد. وتتداخل معها مشاهد كثيرة للحظات الصفاء فى الغربة البرلينية، مع محمود الصيدلى السورى وخالد دارس دكتوراة العلوم الاجتماعية الفلسطينى حيث جمعنا حب الموسيقى العربية وغنائها. أكاد أسمع عزف خالد على العود ونايه الصوفى الذى به ذهب إلى أبهية العديد من الكنائس والمعابد فى برلين للمشاركة فى ترانيم دينية. أراه وهو يسخر من محمود ومنى لفشلنا الذريع فى تعلم قواعد العزف أو مجرد الربط بين الإحساس بالموسيقى وبين حركة سماعية لليدين للعزف على العود وحركة سماعية للشفاه لإخراج نغمات الناى. أرى خالد وهو يسعى لتعليمنا قواعد الغناء للتخلص من عبء الشرح المتكرر لقواعد العزف وأملا فى آذان موسيقية تسمعه، ثم تدفعه الصدمة إلى الإلحاح على اكتفائنا بالاستماع إلى ما لا نغنيه وإلا ابتعد عنا وعن أمسياتنا.
بين محمود وخالد تأتى صورة برلينية أخرى، لعازف الناى المصرى محمود عسكر. أراه فى إحدى «الليالى الطويلة للمتاحف» التى تنظمها حكومة المدينة لتحفيز الناس على زيارة المتاحف والاستمتاع بالفن والتعرف على تواريخ العالم القديم والجديد. أراه واقفا فى بهو المتحف المصرى (القديم) ببرلين بالقرب من رأس جميلة الجميلات نفرتيتى، ملكة برلين كما يسميها أهل المدينة، ممسكا بالناى فى خشوع يليق بالملكة ومرتديا جلبابا نوبيا ناصع البياض ثم محدثا لنغم شجى يتسلق أعمدة المتحف فارعة الطول ثم يهبط على الواقفين ليسكت فى حضرة نفرتيتى كل صوت غير صوت الجمال والبهاء والرقى.
ثم هأنا أعود إلى محمود وخالد فى لقائنا الأخير منذ عامين فى برلين، مسترقا السمع إلى محمود يسرد وقع المأساة السورية على أهله الذين ارتحلوا إلى ملاذات آمنة فى الجوار المباشر ومنها إلى ألمانيا حيث الندم على ضياع الوطن وبقاء المستبد.
***
أتذكر الأستاذ سامى زبيدة، أستاذ علم الاجتماع العراقى المقيم فى بريطانيا الذى كتب فى نقد الفكر القومى العربى والإسلام السياسى، وأيضا فى فنون الطبخ العراقية وموسيقى بلاد ما بين النهرين. ورشة عمل فى جامعة أردنية جمعتنا منذ سنوات، وحديث له بصوت رخيم عرفنى على التراث الموسيقى العراقى وصوت ناظم الغزالى ورمزية المتصوفة فى أغانى العشق، ثم وصلة غنائية منه على عشاء تأتى بناظم الغزالى وبباب المسجد وبدموعه وهو يتذكر طفولته والعراق الذى أجبر على مغادرته. ومن سامى زبيدة وناظم الغزالى إلى إلهام المدفعى اشتعلت قصة حبى للتراث الموسيقى العراقى الذى لا أتوقف أبدا عن البحث عنه والاستماع إليه أينما عثرت عليه.
***
يقتلنى الحنين إلى ما مر.