عنف الكرة.. وعنف المجتمع
محمد عصمت
آخر تحديث:
الإثنين 24 فبراير 2020 - 11:10 م
بتوقيت القاهرة
الاحتقان الكروى الذى أشعله فوز الزمالك على الأهلى فى بطولة السوبر التى أقيمت فى أبوظبى يوم الجمعة الماضى، وصل إلى حافة «حرب أهلية كروية» بين جمهورى الفريقين، فحالة الغليان التى بدأت بالهتافات الجماعية البذيئة التى شهدتها المدرجات قبل المباراة، مرورا بتبادل لاعبى الفريقين الضرب بطريقة همجية بمجرد انتهائها، ثم اندلاع وصلات من الشتائم بين مشجعى الفريقين على مواقع السوشيال ميديا، كانت أكبر من مجرد هزيمة فريق وفوز منافسه فى مبارة للكرة؛ حيث وصلت الأمور لدرجة أن أحد لاعبى الأهلى الكبار سنا وموهبة قال فى تغريدة منسوبة له ــ دون أن يكذبها حتى الآن، بأن مباراة فريقه المقبلة ضد الزمالك ستكون نتيجتها إما الفوز أو الموت!.
هيستريا العنف التى صاحبت المباراة واستمرت بعدها، لا يمكن أن نفصلها عن تصاعد سلوكياتنا الحادة وردود أفعالنا العدائية التى نتعامل بها مع بعضنا البعض فى شوارعنا ومدارسنا ومحلاتنا وأماكن عملنا، والتى تعبر عن تدهور مضطرد فى الحالة الصحية للمزاج العام للمصريين، الذى أصبح يميل بشكل سريع نحو الغضب والعنف لأسباب واهية!.
مجتمع كرة القدم فى مصر هو عينة عشوائية تمثل عموم المصريين، وتعبر عن مكنونات المجتمع المصرى وما يدور من سفحه إلى قاعه، فهل يمكن فصل هذا الاحتقان الكروى عن الاحتقان السياسى والاجتماعى والاقتصادى والثقافى الذى نكابده فى مصر الآن؟ وهل يمكن الفصل بين عنف المدرجات وعنف الشوارع؟ أم هما وجهان لعملة واحدة وإن كانت الظروف تسمح للعنف الكروى أن يعبر عن نفسه بصورة أكثر وضوحا وفجاجة؟
ارتفاع منسوب هذا العنف الذى أشعلته نتيجة المباراة لا يعود إلى أسباب كروية محضة، فالضغوط الاقتصادية السياسية وإغلاق المجال العام فى البلاد يحرق أعصاب ملايين المصريين، فهناك سلسلة أزمات تحاصرهم من جميع الجهات، على رأسها الانخفاض الحاد فى مستوى المعيشة، وزيادة معدلات الفقر والارتفاع الفلكى فى الأسعار، وانخفاض القوة الشرائية للأجور، وتضاؤل فرص العمل، والتضييق المستمر والممنهج على الحريات السياسية، والاعتداءات السافرة على الضمانات التى يوفرها الدستور للعمل السياسى المعارض، وعلى الحقوق الصحية والتعليمية والخدمية التى يجب أن تقدمها الحكومة لشعبها.
كل ذلك يتزامن مع ازدياد المخاطر التى تواجهنا إقليميا ودوليا، سواء ببناء سد النهضة التى يهدد لأول مرة فى تاريخنا كله بكوارث مائية ويؤسس لجغرافيا ــ سياسية جديدة تستهدف ضرب أمننا القومى فى أعز ما يملك، كما أن الحرب على الإرهاب مستمرة منذ عدة سنوات بدون حسمها حتى الآن، إضافة إلى بلطجة إسرائيل وأمريكا وعصفهما بكل الحقوق العربية عبر صفقة القرن، بدون أن يكون لدينا استراتيجة واضحة لمواجهة كل هذه المخاطر.
انسداد قنوات التعبير والتغيير السياسى والاجتماعى يراكم تلقائيا براكين الغضب فى الصدور، التى تجد متنفسا لها فى عنف أهوج فى مباراة كرة قدم، يزيده خطابنا الإعلامى الحكومى اشتعالا بتقديم وعود وردية متكررة بحل المشكلات المتفاقمة التى يواجهها ملايين المصريين، بدون أن يلمسوا بأيديهم أى بشائر تؤذن بتحقيق هذه الوعود فى المستقبل القريب أو حتى البعيد، وبدون أن يشاركوا فى صناعة المشهد السياسى والاقتصادى الراهن، وبدون أن يؤخذ رأيهم فيه، بل بدون أن يكون لهم أى دور فيه من الأساس!.
الرسائل التى ترسلها إلينا هذه المباراة بكل أحداثها الساخنة تتعدى حدود كرة القدم، وأكبر من احتوائها بعقوبات لجنة الانضباط باتحاد الكرة، بتوقيف أو تغريم هذا اللعب أو ذاك، فهى كلها مجرد مسكنات، القراءة الصحيحة لكل هذه الأحداث توجب علينا مشاهدة العنف الذى صاحب المباراة فى نطاق أوسع وأشمل، وإلا فإن المقبل سيكون أكثر فجاجة ورداءة وهمجية !