التنوير اليهودي.. وميلاد الصهيونية
أحمد عبدربه
آخر تحديث:
السبت 24 فبراير 2024 - 7:55 م
بتوقيت القاهرة
رغم أن التاريخ السياسى لإسرائيل ــ بعيدا عن الدعايات الصهيونية ــ لا يمكن أن يذهب إلى أبعد من نهاية القرن التاسع عشر على يد الحركة الصهيونية، إلا أنه وحتى نفهم السياق الذى جاءت فيه وبه الصهيونية، لابد وأن نعرج أولا على حركة التنوير اليهودية التى عرفت باسم «الهاسكالا» وهى كلمة عبرية يمكن أن تكون الترجمة الأقرب لها بالعربية هى «الحكمة»، هذه الحركة انتشرت بالأساس بين يهود وسط وشرق أوروبا المعرفين بالأشكيناز، وإن كانت لها تأثيراتها بل ومساهمتها العميقة على وبين يهود غرب أوروبا، بالإضافة إلى يهود العالمين الإسلامى والعربى والذين يعرفون أيضا ــ بشكل تعوزه الدقة ــ باسم السفارديم!
ولمعرفة السياق الذى ظهرت فيه «الهاسكالا»، فلابد أن نفهم السياق الأوسع الذى ولدت فيه، أى حركة التنوير الأوروبية والتى لها تدين القارة العجوز بالكثير من التحديث والحضارة والتقدم والتصنيع والتكنولوجيا التى تتمتع به ــ ومعها العالم الغربى ــ الآن!
• • •
حركة التنوير الأوروبية هذه هى بالأساس حركة علمية وفكرية قامت على أكتاف العلماء والفلاسفة فى أوروبا الغربية، وتلت فورا عصر الثورة العلمية فى أوروبا التى تمردت على المصادر والطرق الدينية أو غير العلمية بشكل عام فى دراسة الظواهر الطبيعية والاجتماعية والإنسانية، ومن ثم فإن حركة التنوير قضت على سلطة الكنيسة (الكاثوليكية بالأساس) فى احتكار عملية المعرفة والبناء عليها!
من هنا، ومع حلول القرن السابع عشر، كانت أوروبا تتغير بشكل استثنائى عنيف وغير مسبوق بسبب هذه الحركة التنويرية التى قامت لتتمحور حول الإنسان كقيمة مستقلة وحول سعادته ورشده وعقله، معتبرة أن الحقائق المادية الملموسة فقط دون غيرها هى التى يمكن أن تسمى علما ومن ثم تقوم عليها وتستمر النهضة الأوروبية المرجوة!
وبسبب هذه الثورة العلمية وهذه الحركة التنويرية شهدت أوروبا التطور فى مجالات العلوم والفنون والأدب والإنسانيات، وطال هذا بكل تأكيد أبعادا سياسية واقتصادية فى القارة بدءا من الثورة الصناعية وعملية الانتقال من الحياة القائمة على المجتمعات الإقطاعية أو شبه الإقطاعية إلى المجتمعات الحضرية حيث سيادة قيم الليبرالية والفردانية والديموقراطية والعلمانية على قيم العصور الوسطى البالية، ليشكل ذلك ميلادا جديدا للقارة العجوز سيجعلها فى غضون عقود قليلة سابقة وسائدة على غيرها من الحضارات القديمة!
• • •
فى هذه الأثناء كان اليهود فى أوروبا متوزعين بين ثلاث فئات رئيسية، فئة هاجرت من إسبانيا والبرتغال واستقرت فى الإمبراطورية العثمانية وشمال إفريقيا، وفئة أخرى كانت متمركزة فى وسط وشرق أوروبا، بالإضافة إلى جماعات أخرى أقل تماسكا وجدت فى إفريقيا وآسيا وأمريكا الشمالية، وبعضها كان يعيش متخفيا لأسباب وظروف مختلفة بحسب البلاد التى كانوا يعيشون فيها.
كانت الفئة الأولى أكثر انفتاحا وتعلما ومشاركة فى اللحمة الاجتماعية والاقتصادية للبلاد التى عاشوا فيها، أما الفئة الثانية فقد كانت أكثر انغلاقا وأقل ثقافة وبالتالى كانت تعيش فى عزلة عن المجتمعات المحيطة بها! وسواء كنا نتحدث عن الفئة الأولى أو الثانية بالإضافة إلى الفئات الهامشية الأخرى، فكلها كانت تتحدث لغات مختلفة ولم تكن اللغة العبرية تستخدم بشكل موسع فى الحياة اليومية، واقتصرت فى معظم الأحيان على الطقوس الدينية!
تأثرا بعصر التنوير الأوروبى، بدأ عدد كبير من اليهود وتحديدا من الفئة الثانية تطوير حركة الهاسكالا، لتحقيق هدفين محددين؛ الأول هو قطع العزلة التى يعيشها يهود أوروبا الشرقية والوسطى عن مجتمعاتهم ومحاولة دفعهم ليكونوا جزءا من الهويات القومية بحسب الدول التى يعيشون فيها من أجل إنهاء تهميشهم التاريخى، والثانية هو إعادة الاعتبار للغة العبرية واستخدامها فى الحياة اليومية العلمانية بعيدا عن الطقوس الدينية!
قطعا لم تكن الهاسكالا تسعى إلى إذابة الهويات اليهودية فى محيطها الاجتماعى، فقد كانت تتعامل مع اليهود واليهودية باعتبارهم عنصرا تاريخيا مميزا يجب الحفاظ عليه، لكنهم دعوا فقط إلى إنهاء هذه العزلة، ومشاركة القيم الأوروبية الحديثة المرتكنة إلى العلم والليبرالية والعلمانية، إلخ.
رغم نجاح الحركة التنويرية اليهودية هذه فى اجتذاب الكثير من العلماء والمثقفين والفلاسفة إليها، ورغم تمكنها من إحداث ثورة كبيرة فى استخدام العبرية سواء بشكل مسموع أو مطبوع فى الحياة اليومية لليهود، ورغم أن تأثير الحركة امتد إلى يهود العالمين العربى والإسلامى، بالإضافة إلى يهود أوروبا الغربية، إلا أنها واجهت خصومة كبيرة من تيارين آخرين؛ كان التيار الأول حاخاميا، من رجال الدين الذين رفضوا تماما هذا الاتجاه العقلانى العلمانى وخشوا من أن انفتاح اليهود بهذا الشكل سيذيب هوياتهم المنفردة، قطعا فضلا عن أنهم ــ ككل رجال الدين ــ كانوا يخشون زوال قوتهم وسطوتهم! أما التيار الثانى الذى عادى التنوير اليهودى، فقد كان تيارا راديكاليا، يرفض أى ادعاءات عن تمايز الهوية اليهودية ويدعو إلى أن ينخرط اليهود بشكل تام فى مجتمعاتهم التى يعيشون فيها!
• • •
خلقت الهاسكالا جيلا جديدا من اليهود العلمانيين الحداثيين، المتمسكين بهويتهم، ولكن ليس على أساس دينى، ولكن على أساس ثقافى وعرقى/إثنى. بعبارة أخرى، فإن الحركة أدت إلى استبدال الديانة اليهودية باعتبارها الرابط بين يهود العالم، بالثقافة اليهودية والإثنية اليهودية واعتبارهما الأسس الجديدة لما أسموه «الوحدة العالمية اليهودية»، وهو الأمر الذى تطور فى ثمانينيات القرن التاسع عشر، مفضيا إلى ظهور حركة جديدة كانت بمثابة التطور أو النتيجة للتنوير الأوروبى وهى الحركة الصهيونية العالمية التى أدت إلى مرحلة جديدة تطالب بوطن قومى لليهود على أساس علمانى! ولكن قبل الاستفاضة بالحديث عن الحركة الصهيونية، فمن المهم التعرف ــ ولو باختصار ــ على ما يعنيه المصطلح نفسه!
مصطلح الصهيونية هو مشتق من كلمة «صهيون» والتى فى معناها اللغوى المباشر تعنى «الحصن» لكن دلالتها أوسع من ذلك، فقد تم الإشارة إليها فى العهد القديم لتعنى أحد التلال المقدسة لمدينة القدس، ولاحقا أصبحت تشير بشكل عام إلى مدينة القدس كلها، كما تعنى أو تشير بشكل عام إلى الجنة الموعودة لليهود فى العالم الآخر!
فى استخدامات أخرى أكثر حداثة، فإن «صهيون» يتم استخدامها بشكل عام فى الأدب العبرى، بل وحتى فى الثقافة المسيحية المحافظة فى أمريكا الشمالية للدلالة على المجتمع المثالى المنضبط الذى يعيش فيه الناس حياة روحية منضبطة تفضى بهم إلى الجنة أو الفردوس فى نهاية العالم!
ظهرت الحركة كما أشرت فى نهاية القرن التاسع عشر باعتبارها حركة سياسية بالأساس تنادى بقيام وطن يهودى أو دولة لكل يهود العالم، تنهى حالة الشتات والانعزال والتهميش التى يرون أن اليهود قد عانوا منها على طول الزمان.