انهيار التراث التاريخى لمظاهر الحضارة الإنسانية

مصطفى الفقي
مصطفى الفقي

آخر تحديث: الإثنين 24 فبراير 2025 - 6:15 م بتوقيت القاهرة

إن الذى يرقب ما يجرى حاليًا على المستويين الدولى والإقليمى لا بد أن يدرك أن شيئًا ما قد طرأ على العقل البشرى، حيث تداخلت فيه التكنولوجيا الحديثة وتزايدت وتيرة العنف على مختلف الأصعدة فردية وجماعية، بحيث أصبح الأمر مثيرًا للقلق ودافعًا للتوتر ومبررًا للخوف.

وما أريد أن أقوله فى السطور التالية أن أسجل حالة الدهشة التى تجتاح العالم نتيجة تصريحات رئيس أكبر دولة اقتصاديًا وعسكريًا، وأعنى به الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، فى سيمفونية خبيثة مع قادة إسرائيل التى يقودها رئيس وزراء لا يؤمن بشىء إلا العنف ولا يعترف إلا بمنطق القوة وليس لديه هو ورفاقه ولا المتعاطفون معه حدًا أدنى من القيم الإنسانية والفضائل الأخلاقية، بعد خمسة عشر شهرًا أو ما يزيد من العدوان المكثف على الشعب الفلسطينى فى غزة والشعب اللبنانى فى الجنوب وغيرها من المناطق التى تأثرت بتلك المجازر الدامية القائمة على مبدأ العقاب الجماعى والتهجير القسرى وباقى مظاهر الدمار التى حطمت القيم المتعارف عليها وأطاحت بديمقراطية العلاقات الدولية التى كافحت من أجلها الشعوب وناضلت سعيًا لها الأمم واندفع الساسة والزعماء وقادة الرأى العالمى عبر العقود الأخيرة لتأكيدها والعمل عليها، فهل يتصور أحد أن الولايات المتحدة الأمريكية التى يقودها -الآن- رئيس أمريكى متهور هو ترامب، هى نفسها الولايات المتحدة الأمريكية التى قدمت الرئيس ويلسون فى أعقاب الحرب العالمية الأولى بمبادئه الشهيرة التى كانت تنحاز لمفهوم العالم الحر والفكر السياسى المستنير؟

لقد عشنا عدة عقود متصورين أن الولايات المتحدة الأمريكية داعم حقيقى لحقوق الإنسان ومساند لمفهوم الحرية وحارسة للديمقراطية المعاصرة، ولكن تصرفات إدارتها فى الفترة الأخيرة توحى بغير المتوقع، خصوصًا أن العالم قد غفر لها ما جرى فى كوريا وفيتنام من قبل بل وأفغانستان والعراق أيضًا، على اعتبار أن القوى العظمى غالبًا ما يكون لها أخطاء عظمى أيضًا، مدركين أن العالم المعاصر أصبح شديد التعقيد تتداخل فيه عوامل متباينة بعضها إيجابى ولكن معظمها سلبى، إذ أن ندرة الموارد فى المياه والطاقة إلى جانب تغيرات المناخ والتزايد الهائل لسكان هذا الكوكب قد أدت كلها إلى ضغوط خارجية وداخلية وصراعات إقليمية ودولية لم تكن فى الحسبان، ففى عصر التقدم التكنولوجى والدخول لعالم الذكاء الاصطناعى وبعد النجاح فى غزو الكواكب الأخرى ما زلنا نشعر بأن الطريق طويل وأن الوصول إلى نقطة التوازن لا يبدو قريبًا.

يجب ألا ندرس تصريحات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب وآثارها التى تعيد البشرية عقودًا إلى الوراء ولا أقول قرونًا، فحتى فى عصور السلام الرومانى لم نشهد ذلك التفاوت الكبير الذى نشهده الآن، خصوصًا وأن التكنولوجيا الحديثة والتضخم الواضح فى آليات التسليح قد جعلت الدمار أشد عنفًا وضراوة من كل ما مضى، ويكفى أن نتأمل ما أصاب إقليم غزة من دمار أدى إلى تسوية البنايات العالية يمستوى الأرض وأصبح الموقف بحق تعبيرًا أليمًا عن ظلم الإنسان لأخيه الإنسان وتحكم جبروت القوة فى حقوق الشعوب ومصائر المجتمعات، وأنا أدعو صراحة الآن إلى وقفة إنسانية عاقلة للمجتمع الدولى المعاصر وقادة الرأى فيه من مفكرين وعلماء وساسة لكى يدرك الجميع أننا نمر بمرحلة مفصلية تؤكد كل مظاهرها أن العالم يتغيّر بسرعة وأن الضمير الإنسانى يتوارى بشدة، وأن منطق القوة هو الذى يحكم وأن العدالة قد غابت، فما أكثر المظلومين والمقهورين وأصحاب الحق الضائع فى عالمنا المتشابك الذى تشير كل الدلائل إلى وجود معدل سريع فى تدهور القيم لديه وتزايد عمق خطاب الكراهية بين الدول والشعوب والمجتمعات، ولعلى أطرح هنا ثلاث تصورات ذات علاقة بما نتحدث عنه:

أولًا: إن العقل البشرى القادر على الاختراع والإبداع لن يقبل بتدمير مظاهر الحضارة وتشويه عناصر التقدم بحرب عالمية تبدو نذرها فى الأفق أحيانًا، ويلح الهاجس المرتبط بها فى أحيان أخرى، فلا المنظمات الدولية العالمية ولا الوكالات المتخصصة ولا المؤسسات الإقليمية استطاعت كلها أن توقف المعدل المتزايد للعنف على الصعيدين العالمى والمحلى، بل إننا لا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا إن ذلك الذى يحدث يهدد البناء الحضارى للبشرية وينال من مصداقية التقدم التكنولوجى والتطور البشرى بل يضيف إلى كل ذلك نظرة عبثية تزداد دهشة يومًا بعد يوم، وكأننا فى محيط آسن تلتهم فيه الأسماك الكبيرة الأسماك الصغيرة، أو فى غابة موحشة تفتك فيها الوحوش بكل ما تراه طعامًا سائغًا أو صيدًا ثمينًا أمامها.

ثانيًا: إن تضحيات الشعوب وكفاح الأمم لا يضيع هباءً أبدًا، لكنها تبقى فى أركان الذاكرة الإنسانية تدفع إلى المراجعة الأمينة وتطفو على السطح كلما طرأ حادث مأساوى فى جسد الإنسانية المثخن بالجراح بعدما تلقى العديد من الطعنات التى لم تكن فى الحسبان، لذلك فإن سياسة الكيل بمكيالين وازدواج المعايير تبدو اليوم أكثر وضوحًا وأشد ظهورًا من أى وقت مضى، فالعقل البشرى الذى قطع أشواطًا ضخمة يكاد يضحى اليوم بكل ما حققته البشرية خدمة لأهواء الأقوياء جسدًا والأضعف ضميرًا، ولذلك فإننا لا نتوقف عن النداء بأعلى الصوت أن علينا أن ننقذ البشرية اليوم وليس غدًا، فلا مناص من تلك المواجهة الحاسمة لكل ما يجرى خصوصًا فى السنوات الأخيرة بل ربما فى الشهور الأخيرة تحديدًا، فنحن نعلى مكانة الكفاح المسلح الذى يرتبط بالتفاوض العادل، لكننا لا نقبل أبدًا سياسة التعميم والرفض القاطع والاجتراء على من يدفعون ثمنًا غاليًا فى معاناة بشرية غير مسبوقة، لقد حان الوقت لكى يسود العقل وتسيطر الحكمة ويتدخل العقلاء فى كل جانب لحسم ما يمكن أن ندافع عنه من قيم ومبادئ وأفكار، شريطة أن يكون الحوار متبادلًا والمبادرات مشتركة تتمكن من الوصول فى النهاية إلى حلول وسطية تحقق الحد الأدنى من مطالب كل طرف وتسمح بالتعايش المشترك وتنتزع فتيل الكراهية ما أمكن.

ثالثًا: إننا نعوّل كثيرًا على المستقبل بما فيه وما عليه لكى نرى العالم مختلفًا والعلاقات الدولية أكثر ديمقراطية بحيث تتساوى حقوق الشعوب وتلتقى كل الأجناس بلا تمييز أو تفرقة ودون عنصرية أو عدوان، إنها ليست كلمات فى الهواء ولكنها تعبير أمين وصادق عما يجب أن تمضى عليه العلاقة بين أصحاب الثقافات المختلفة والحضارات المتعددة والديانات التى تضع دوائر مقدسة حول معتقداتها بكل توازن وعدالة لأنه لا يصح فى النهاية إلا الصحيح، ولا يبقى إلا الفكر الصادق والرأى الحكيم الذى يستند إلى تراث بشرى طويل وحقائق عصرية عميقة، فنحن نعيش فى زمن تتضارب فيه المصالح وتتباين الرؤى وتختلف المقاصد، ولن يتحقق لنا ما نريد إلا بالاستخدام الأمثل للتكنولوجيا المتقدمة والربط بين الفكر المستنير والعقل الرشيد حتى يعيش الجميع على النحو الذى يريدون وفقًا للطريق الذى يشاءون، إننا نرى أن العنصرية والتعصب والكراهية والاستبعاد كلها مظاهر مرفوضة فى عصرنا الذى يأتى كل يوم بجديد ورغم ذلك يتميز بالسلبية والتناقض وقصر النظر وضعف البصيرة، إننا نريد عالمًا تسوده قيم جديدة ويتخلى فيه كل طرف عن بعض أطروحاته بما لا يمس الثوابت لكنه يبشر بعالم مختلف ومجتمع راق.

هذه قراءة فيما نرى أنه طوق أخير للنجاة ومحاولة للخلاص من التشابك القائم بين معطيات الحياة السياسية المعاصرة باختلافاتها وتداخل عناصرها، إننا نريد أن ينتقل العالم من كوارث الحروب والنزاعات المسلحة إلى أجواء التفاهم والأمن والسلم الدوليين.

 

نقلًا عن إندبندنت عربية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved