تفكيك التضخم
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 24 فبراير 2025 - 6:25 م
بتوقيت القاهرة
كان البنك المركزى يتخذ قرارات السياسة النقدية عبر مجلس إدارته ولجانه دون أن يشعر به غير المختصين، إلى أن تبدلت الحال وصار بائع الجرائد يفتش فى بضاعته عن قرارات لجنة السياسة النقدية، وهل قامت برفع أم تثبيت أم تخفيض الفائدة. وعلى الرغم من كون هذا مؤشرًا جيدًا على تقدّم الوعى الاقتصادى غير أنه عبء مرهق على الاقتصاديين الذين بات مقررًا عليهم عند كل مراجعة لسعر الفائدة اتخاذ مقاعدهم من الجدل والتحليل والتنبؤ عبر مختلف الوسائط.
التضخم هو مفتاح أسرار ذلك الاهتمام الشعبى بالشأن الاقتصادى، وكما قلت مرارًا فإنه الضريبة التى يدفعها الفقراء والأغنياء دون تمييز. ولأن قرارات البنك المركزى المتعلقة بتحريك أسعار الفائدة أو تثبيتها هى أبرز أدوات السياسة النقدية للتعامل مع التضخم، فقد انتبه الحس الشعبى إلى تلك الأداة واعتبرها مؤشرًا على اتجاهات أسعار السلع والخدمات التى يستهلكها.
ولأن التضخم -كما ذكرنا فى غير مقال- يتحرك بعدد من العوامل: منها ما يتعلق بتكاليف الإنتاج (عوامل جانب العرض) ومنها ما يتعلق بضغط الاستهلاك وزيادة النقود فى الأسواق عن طاقة السلع والخدمات (عوامل جانب الطلب). كما لا يجوز إهمال العوامل المرتبطة بالسياسات المالية المغذية للمصدرين السابقين، مثل رفع الأجور (الاسمية) لمواجهة ارتفاع الأسعار فتزداد النقود فى الأسواق، أو رفع أسعار الطاقة للتخلص مما يطلق عليه دعم الطاقة، فتزداد تكاليف الإنتاج والنقل.. وبالإضافة إلى هذه العوامل المختلفة هناك عامل متصل بتوقعات الأسواق للتضخم، وتلك تتجه جميعا إلى نظرة تشاؤمية حول معدلات التضخم إذ لم تنخفض عن مستوى 20% سنويا منذ ديسمبر 2022 فيما يمكن وصفه بالتضخم اللزج sticky inflation. وإذا كان الناس لا يرون تراجعًا فى معدلات زيادة الأسعار عن هذه المستويات المرتفعة للغاية (بعيدًا عن مستهدف التضخم 5%-9%)، وذلك لفترة طويلة من الزمن، فإن توقعاتهم تتجه إلى انتظار مزيد من التضخم فى قابل الأيام. وهنا ترى أحدهم ينصحك بشراء احتياجك لشىء مؤجل اليوم وليس غدًا، لأن سعره سوف يرتفع بكل تأكيد، وهذا يشكل ضغطًا على المخزون السلعى للبلاد بصورة متزايدة ويخلق شحًا للسلع فى الأسواق، فترتفع الأسواق بوتيرة أكبر.
• • •
مؤخرا اجترأ نفر من الاقتصاديين على تحليل أو تفكيك التضخم inflation decomposition . وأمارة هذا الاجتراء هو الجزم بأن التضخم الذى تعانيه مصر هو تضخم مشفوع ومدفوع فقط بصدمات العرض! مما جعلهم ينكرون على البنك المركزى ولجانه المتخصصة أى قرار من شأنه يلهب ارتفاع تكاليف الإنتاج بما يمكن أن يعتبر فى ذاته صدمة فى جانب العرض.
بعبارة أسهل: يرفض هؤلاء الاقتصاديون قيام البنك المركزى برفع أو حتى تثبيت أسعار الفائدة عند مستويات مرتفعة لأنها ترفع من تكلفة رأس المال عبر زيادة المقابل الذى يتعين على المستثمر دفعه نظير الاقتراض للقيام بمشروعه.. مما يتسبب فى زيادة تكلفة إنتاج السلع لأن رأس المال هو أحد عوامل إنتاج مختلف السلع والخدمات، وبالتالى تزداد الأسعار ارتفاعا فى الوقت الذى تنعقد فيه نية خبراء المركزى على كبح التضخم.
وإذا كانت هذه الرؤية صحيحة نظريا فهى قاصرة مجتزأة ولا تنظر إلا إلى جانب واحد فقط من أسباب التضخم، مهملة العناصر الأخرى، ومهملة حقيقة التوازنات التى يتعين على صانع السياسة النقدية مراعاتها لدى اتخاذ أى قرار. بداية الخطأ فى التناول تكمن فى القطع بأن معدلات التضخم فى مصر «كلها» قادمة من جانب العرض! وإذا كان ذلك صحيحًا فى بعض الأحيان (وكنت فى مقدمة مرجحى هذا الطرح فى وقت سابق) فإنه لا يصح فى مختلف الظروف. وإذا كان للاقتصاديين أن يرجحوا بعض الاحتمالات قياسًا على مشاهدات عامة وتقديرات متحيزة فى غيبة التحليل الكمى، فإنه لا يصح أن يتحول الترجيح إلى «جزم» و«يقين»، وينبغى ألا تغيب الدراسات الكمية عن هذا السياق لحسم الخلاف والكف عن تشويش قرارات السياسة النقدية بما لا تحتمل.
ولأن معدلات التضخم العام التى تعكس معدلات ارتفاع المستوى العام للأسعار معبّر عنها بمؤشرات معروفة مثل «مؤشر أسعار المستهلك» أو «مؤشر أسعار المنتج» فإن البنك المركزى يركن إلى ذات المؤشرات لتخليصها من أسعار السلع عالية التقلّبات (مثل منتجات الغذاء والطاقة)، وتلك التى يتم تحديدها إداريًا بمعرفة أجهزة الدولة للوصول إلى ما يعرف بمعدل التضخم الأساسى. وهذا الذى يساعد البنك المركزى على اتخاذ قرارات السياسة النقدية التوسعية أو المتشددة.
ومن أدوات التشديد الهادفة إلى كبح التضخم رفع أسعار الفائدة لاجتذاب فائض السيولة النقدية، وتثبيط الاقتراض.. وأيضًا من الأدوات التى يعتمدها المركزى ما يعرف بعمليات السوق المفتوحة التى تعمد إلى امتصاص فائض السيولة من القطاع المصرفى عبر بيع أدوات مالية وتقبّل ودائع قصيرة الأجل من تلك البنوك.. فضلًا عن رفع متطلبات الاحتياطى بها للحد من قدرتها على خلق الائتمان.. وبالطبع لتلك السياسات المتشددة أثر مباشر على النمو الاقتصادى (خاصة إذا كان معززا بالاستثمار) وعلى تكاليف الإنتاج كما سلفت الإشارة.
فى مصر نعرف جميعًا أن النمو معزز فى الأساس بالاستهلاك وبنسبة تجاوزت 85% فى بعض السنوات، وبالتالى، وعلى الرغم من حرصنا على تغيير هذا الواقع، فإن طبيعة تكوين النمو فى مصر تقدّم تحفيز الاستهلاك على تحفيز الاستثمار (على الأقل فى الأجل القصير)، ولا يكبح من الاستهلاك شىء أشد بأسًا من ارتفاع الأسعار الذى يخفض من القوى الشرائية وينهك ميزانية الأسرة وقطاع الأعمال على السواء، بل ويضر بآفاق الاستثمار التى ترى فى «ضريبة» التضخم الملتهم الأكبر للعائد الحقيقى على الاستثمار.
• • •
من ناحية أخرى لا يجوز أبدًا استبعاد أثر صدمات الطلب على معدلات التضخم فى مصر، تلك التى تحسن السياسة النقدية المتشددة التعامل معها (على عكس صدمات العرض). ولهذا أيضًا أمارات كمية لا يمكن تجاهلها، ومن مؤشراتها ارتفاع معدّل نمو المعروض النقدى M2 عن معدل النمو «الاسمى» فى الناتج المحلى الإجمالى (معلومة للمتخصصين).. وكذلك هناك صدمات فى جانب الطلب يعكسها النمو غير الطبيعى فى حجم السكان (أى فى حجم الطلب الكلي) وذلك الذى يعكسه زيادة استقبال مصر للوافدين من الدول المجاورة فى السنوات القليلة الماضية بفعل الأزمات الجيوسياسية. حتى إذا كان معدل الخصوبة قد تراجع بشكل ملحوظ مؤخرًا فإن هذا يعكس فقط النمو الطبيعى فى السكان. وإذا كانت مصر قد استقبلت فى آخر عشر سنوات 10 ملايين وافد (كما تقول بعض التصريحات التى يمكن تدقيقها) فإن هذا يعنى أن السكان ومن ثم الطلب كان يزيد بنحو مليون مستهلك سنويًا فى المتوسط فوق معدّل النمو الطبيعى.
من ناحية أخرى فإن استمرار التضخم لزجًا فى بلادنا لفترة طويلة كما سلفت الإشارة يرجّح اتجاه التضخم إلى الارتفاع أو البقاء مرتفعًا بفعل «التوقعات السلبية الرشيدة» (خصصنا لها مقالا سابقا). وهذه التوقعات تزداد تشاؤمًا إذا رأت السياسة النقدية قد ارتضت معدلات التضخم فوق 20%، واتجهت نحو تخفيض أسعار الفائدة لمجرد أن معدلات التضخم قد بدأت تهدأ قليلًا! وبالطبع لا يفوت صانع السياسة النقدية أن ينظر إلى حقيقة اقتراب شهر رمضان بما يحمله من أثر تضخمى موسمى لا يمكن إغفاله.
يُضاف إلى ذلك أثر آخر خطير لسياسة التيسير النقدى على تدفقات النقد الأجنبى وما يمكن وصفه بالأموال الساخنة، التى لا غنى عنها فى الأجل القصير للمساعدة فى الحفاظ على استقرار سعر صرف الجنيه المصرى خاصة فى ظل استمرار سياسات التشديد فى معظم دول العالم، وفى مقدمتها الولايات المتحدة التى من المستبعد أن يكون اتجاه التيسير فيها ملحوظًا خلال هذا العام فى ظل سياسة ترامب الحمائية التضخمية بكل تأكيد. ولا ننسى أن مرونة الاستثمار الخاص فى بلادنا لأسعار الفائدة منخفضة (بمعنى أن الاستثمار يحتاج إلى تخفيض كبير فى الفائدة كى يتحرك ارتفاعًا بنسبة قليلة)، وهذا له العديد من الأسباب منها اهتمام البنوك بإقراض الحكومة على حساب القطاع الخاص، بما يرسّخ من المشكلات الهيكلية فى الاقتصاد، ويرجّح ضرورة توقف الدولة عن المزاحمة.
ولحسم هذا النوع من الجدل بعيدًا عن التخمينات يمكن تفكيك مصادر وأسباب التضخم عبر دراسات كمية كتلك التى قام بها Melih Firat and Otso Hao فى أكتوبر 2023، والتى نشرت ضمن أوراق صندوق النقد الدولى، وقد أجريت على 32 دولة (ليس من بينها مصر) وتوصّلوا من خلالها إلى أن صدمات العرض عادة ما تكون كبيرة استجابة إلى أسعار الوقود واضطراب سلاسل الإمداد، وأن صدمات الطلب تشكل جانبًا كبيرًا من معدلات التضخم إذا كان منحنى «فيليب» (الذى يوضح العلاقة بين معدل البطالة والتضخم) يأخذ اتجاهًا أفقيًا، وهى الحال فى مصر منذ فترة طويلة فى إشارة إلى استمرار معدلات البطالة عند مستوى شبه ثابت مع ارتفاع شديد فى معدلات التضخم.
وعلى الرغم من المحددات التى يمكن أن توضع على هذا المنحنى خاصة مع ظهور ما يعرف بالركود التضخمى منذ سبعينيات القرن الماضى، فإننى أدعو إلى دراسة مماثلة فى مصر، وتلك تتطلب إجراء بحث الدخل والإنفاق الذى لم ينشر منذ عام 2019/2020، ومن المفترض أن يجرى وينشر كل عامين. هذا النوع من المسوح كان المصدر الرئيس للدراسة المشار إليها، وهو أيضًا شديد الأهمية لمعرفة معدلات الفقر.
كاتب ومحلل اقتصادى