ترامب وبوتين على خطى كينيدى وخروتشوف

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الإثنين 24 فبراير 2025 - 6:20 م بتوقيت القاهرة

 إلى طيف المتشابهات بين أزمتى كوبا 1962، وأوكرانيا 2025، يدلف استئثار واشنطن وموسكو بمفاوضات إنهاء الحرب المستعرة بين موسكو وكييف، من دون إشراك أوكرانيا والناتو. فيما يبدو وكأنه ديدن القوى العظمى فى التعاطى مع الأزمات المركبة، التى تضعها على شفا الصدام المباشر.

إبان مفاوضات تسوية أزمة الصواريخ الكوبية، تجاهلت موسكو وواشنطن الرئيس الكوبى، فيدل كاسترو، والحلفاء الأطلسيين، ومن قبلهم الأمم المتحدة. فعلى إثر تبادل الرسائل بينهما، اتفق كينيدى وخروتشوف على إزالة الصواريخ السوفييتية من الأراضى الكوبية مقابل تعهد الولايات المتحدة بعدم غزو الجزيرة الكاريبية مجددا. وبالتوازى، كان كل من روبرت كينيدى والسفير السوفييتى لدى واشنطن، دوبرنين، يجريان مفاوضات سرية حول بند إضافى يتمثل فى سحب صواريخ «جيوبيتر» النووية الأطلسية من تركيا وإيطاليا؛ وذلك فى غضون ستة أشهر من سحب الصواريخ السوفييتية من كوبا.

تمخض استبعاد كينيدى وخروتشوف الرئيس الكوبى من مفاوضات تسوية الأزمة، عن تمايز الأخير غيظا إلى حد رفض تنفيذ بعض بنود الاتفاق لاسيما تلك المتعلقة بتفتيش مراقبى الأمم المتحدة الأراضى الكوبية، والذى اعتبره إذلالا لبلاده، حتى إنه وضع شروطا تعجيزية للموافقة. بيد أنه اضطر فى 19 نوفمبر 1962، أى بعد أحد عشر يوما من المفاوضات مع السوفييت إلى الإذعان. وإن كانت العلاقات السوفييتية الكوبية، فى عقبها، لم تمض وفق سيرتها الأولى.

فى 26 أبريل 1963، تم تنفيذ بند سرى للاتفاق، يتعلق بسحب صواريخ «جيوبيتر» النووية الأطلسية من تركيا وإيطاليا؛ دون إخطار أى من أعضاء حلف الناتو. ورغم تبرير واشنطن تصرفها الصادم، باعتزامها إجراء عمليات صيانة شاملة على الصواريخ، أو استبدالها بأخرى من طراز «بولاريس»، التى تطلق من الغواصات؛ بدأت العلاقات الأمريكية الأطلسية تنحو نحوا مغايرا. حيث تراءى للأوروبيين أن واشنطن بدأت تتخلى عن سياسة الأمن المشترك، التى تربط ضفتى الأطلسى منذ الحرب الكونية الثانية. وأدرك الرئيس الفرنسى، شارل ديجول، أن الحلول التى توصلت إليها كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى جاءت على حساب الأمن الأوروبى؛ وأن حلف الشمال الأطلسى قد أمسى بيدقا لحماية أمن ومصالح واشنطن. 

لذلك، ارتأى أن أمن فرنسا وأوروبا لن يتعزز إلا عبر سياسة خارجية ودفاعية أكثر استقلالية. ومن ثم، تبنى سياسة «الكبرياء العالمى»، الرامية إلى تطوير القوة النووية الفرنسية، بعد التشكيك فى صدقية وجدوى المظلة النووية الأمريكية، التى حرَض دول غرب أوروبا على إنهاء اعتمادهم عليها، وإنتاج أسلحة نووية وطنية. وفى مارس 1966، قرر، ديجول، سحب القوات الفرنسية من القيادة العسكرية الموحدة لحلف الناتو. بينما بدأت ألمانيا الغربية اعتماد سياسة الانفتاح على الشرق، عبر إبرام حزمة معاهدات تعاون مع الاتحاد السوفييتى، بولندا، ألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا.

•  •  •

يكاد السيناريو الكوبى يتكرر اليوم فى تسوية الأزمة الأوكرانية. فبينما تؤكد واشنطن عزمها تأمين سلام دائم فى أوكرانيا وشرق أوروبا، آثرت التحرك الأحادى. إذ تم تغييب الأمم المتحدة، أوكرانيا والحلفاء الأطلسيين، عن مفاوضات ثنائية أجرتها موسكو وواشنطن، سرا وعلانية. فعقب المباحثات، التى استضافتها الرياض الأسبوع الفائت، أكدت مصادر غربية انعقاد جولات حوار سرية بين مسئولين أمريكيين وروس، حول أوكرانيا، فى سويسرا؛ خلال الفترة الانتقالية، التى توسطت فوز، ترامب، بولاية رئاسية ثانية، وأدائه القسم الرئاسى، ضمن سياق ما اصطلح على تسميته «دبلوماسية المسار الثانى». وشأنها شأن أزمة الصواريخ الكوبية، تجرى جهود تسوية الأزمة الأوكرانية بمنأى عن الأمم المتحدة. وذلك رغم أن كينيدى طلب خلال الأولى عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن، للبحث فيما أسماه، حينها، التهديد السوفييتى للسلام العالمى، كما طرح مشروعا لسحب الأسلحة السوفييتية من كوبا، وإنهاء الحصار البحرى عليها، تحت إشراف الأمم المتحدة. ووقتئذ، كان للأمم المتحدة دور ثانوى، تجلى فى الإشراف على تنفيذ الاتفاق، بداية من عملية تفكيك ونقل الصواريخ السوفييتية، مراقبة الالتزام الأمريكى تنفيذ التعهد بعدم معاودة غزو كوبا، وإنهاء الحصار البحرى عليها. وبينما ظلت هيئة الأمم المتحدة مجتمعة لمدة شهرين، التماسا لصيغة البيان الختامى، بلا جدوى؛ اضطرت إلى اعتماد الرسائل، التى تبادلها، خروتشوف وكينيدى، أثناء المفاوضات، كأسس لذلك البيان، باعتبارها وثائق رسمية.

لما كانت أوروبا ترنو إلى سلام دائم، عبر معالجة الأسباب الجذرية للأزمة الأوكرانية، بشكل جماعى، وإيجاد إطار أمنى متوازن، فعال ومستدام؛ فقد اعتبرت انفراد الأمريكيين بمساعى إنهاء الحرب، فى غياب الحليف الأوروبى، مع تقديم تنازلات ضخمة، مكافأة لمن يغزو دولة ذات سيادة، وخيانة استراتيجية.

بدورها، اعتبرت ألمانيا تصريحات إدارة ترامب، بشأن تنازل أوكرانيا عن أراض، وعدم الانضمام للناتو، إضعافا لموقف كييف التفاوضى على مشارف محادثات سلام جديدة مع روسيا. وبينما يرون فى روسيا وأحلامها الإمبراطورية، التهديد الأكبر لأمنهم الجماعى؛ يطالب الأوروبيون واشنطن بضمانات أمنية، يعتبرونها السبيل الوحيد لردع روسيا عن مهاجمة أوكرانيا مجددا. وخلال قمة باريس الطارئة غير الرسمية، أكدت عشر دول أوروبية أطلسية أن أوكرانيا تستحق السلام عبر القوة، بما يعزز استقلالها، سيادتها ووحدة أراضيها. ويعتقد الأوروبيون أن التحرك الأمريكى المنفرد قوّض الإجماع الغربى على نبذ بوتين، ومحاصرته اقتصاديا وعسكريا، بغية إجباره على التفاوض، توطئة للانسحاب من الأراضى الأوكرانية. ومن ثم، تعتبر أوروبا سلام ترامب الأحادى مع بوتين، خيانة واستسلاما، وتقويضا للشراكة الاستراتيجية الأوروأطلسية. وخلال القمة المصغرة، التى شارك فيها كل من، أمين عام الناتو، رئيسة المفوضية الأوروبية، ورئيس المجلس الأوروبى؛ أكد الأوروبيون خطورة وقف إطلاق النار فى أوكرانيا، بغير اتفاق سلام، يتضمن خطة لحمايتها من التهديد الروسى مستقبلا. لكن ثلاث ساعات ونصف الساعة من المحادثات، عجزت عن التماس علاج ناجع لكابوس أوروبا الأمنى، فلقد بدا جليا افتقاد الأوروبيين الجهوزية لفك الارتباط الاستراتيجى مع واشنطن، فى ظل استمرار تباطؤ النمو الاقتصادى، تعذر زيادة الإنفاق العسكرى، واستعصاء توحيد برامج الصناعات والتكنولوجيا العسكرية.

•  •  • 

أمعن زيلينسكى فى إبداء استيائه جراء الاستبعاد من المشاركة فى المباحثات الأمريكية الروسية. حيث شدد على ضرورة أن تكون مفاوضات إنهاء الحرب عادلة، وتتضمن خطة متكاملة، بمشاركة الاتحاد الأوروبى وتركيا. وأكد أن السلام المستدام يتطلب ضرورة وجود ضمانات أمنية قوية وموثوقة. ذلك أن أى وقف هش لإطلاق النار، لن يكون سوى خداع روسى، وتمهيد لحرب جديدة ضد أوكرانيا أو دول أوروبية أخرى. وأرجأ زيلينسكى، زيارته إلى السعودية، حتى لا يُضفى شرعية على مباحثات المسئولين الأمريكيين والروس. وردا على تلويح الأمريكيين بشأن تنازل كييف عن أراضٍ للروس، وعدم واقعية انضمامها إلى الحلف الأطلسى، حذر الرئيس الأوكرانى من أن التصريحات الاسترضائية التى يتزلف بها ترامب الكرملين تهدف إلى بلوغ نجاح وهمى سريع، ينحصر فى وقف مؤقت لإطلاق النار.

حملت إدانات زيلينسكى اللاذعة للمباحثات الأمريكية الروسية إدارة ترامب على تكييل الانتقادات والاتهامات للرئيس الأوكرانى. فبعدما عاب عليه الرئيس الأمريكى، تأجيل إجراء الانتخابات، التى كانت مقررة العام الماضى، ووصفه بأنه ديكتاتور بلا انتخابات، حمّله مسئولية إشعال حرب خاسرة مع روسيا. وطالبه بسرعة التفاوض لإنهائها، حتى لا يخاطر بفقدان دولة يحكمها. وفجع ترامب نظيره الأوكرانى حينما أعلن أن مشاركة الأخير فى المحادثات ليست مهمة، وأن كييف لا تمتلك أوراقا تفاوضية قوية. بينما تتحصن روسيا، فى المقابل، بموقف تفاوضى أقوى، بعدما احتلت أراضى أوكرانية شاسعة، واستعادت 65% من كورسك الروسية.

وردا منه على هذا الهجوم الأمريكى العاصف؛ ندد زيلينسكى باقتراح أمريكى تمنح كييف، بمقتضاه، واشنطن موارد طبيعية تتضمن نفطا، غازا ومعادن نادرة بقيمة 500 مليار دولار. وذلك لقاء الدعم، الذى أغدقته عليها واشنطن خلال الحرب مع روسيا، علاوة على ما سوف تقدمه لها فى مقبل الأيام، لأغراض إعادة الإعمار. وفى عتمة تلك الغيوم، يصطدم، زيلينسكى، الحائر والمحاصر، بمقولة مثيرة للدبلوماسى الأمريكى الشهير الراحل، صموئيل لويس، مفادها: «إذا كان من الخطر أن تكون عدوا لأمريكا، فمن الأخطر أن تكون صديقا لها».

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved