أفكار هندية لمشاكل مصرية (1-2)
زياد بهاء الدين
آخر تحديث:
الثلاثاء 24 مارس 2015 - 10:25 ص
بتوقيت القاهرة
نيودلهى، حيث دعانى المجلس الهندى للتعاون الثقافى ــ وهو فرع من وزارة الخارجية الهندية ــ لزيارة أربع مدن: بومباى، وأحمد آباد، وجايبور، والعاصمة نيودلهى، ثم المشاركة فى مؤتمر اقتصادى دولى حول تحديات التنمية الاقتصادية. موضوع الزيارة هو التعرف على تجارب المؤسسات المالية والأهلية الرائدة فى دعم مشاركة الفقراء فى النشاط الاقتصادى والدفاع عن مصالحهم بشكل جماعى بما يساهم فى تحقيق العدالة الاجتماعية. وللهند فى هذا الشأن تجربة ثرية كما أن لدينا فى مصر حاجة للتعرف على تجارب الآخرين.
تجربة الهند ثرية ليس لأنها نجحت فى القضاء على الظلم الاجتماعى، بل لأن التحدى كان هائلا فى أعقاب الاستقلال عام 1947. وبرغم المكاسب الكبرى التى حققتها ثورة المهاتما غاندى على الأوضاع الاجتماعية، والسياسات الاشتراكية لحزب المؤتمر لمدة ثلاثين عاما، وما نص عليه الدستور الصادر عام 1949من حماية قانونية للعدالة والمساواة، وما تحقق من ارتفاع فى مستويات التعليم والرعاية الصحية، إلا أن المجتمع الهندى ظل يعاني من تفاوت طبقى وطائفى كبير. ثم جاءت سياسات الانفتاح الاقتصادى فى التسعينيات لترتفع بمعدلات النمو والتشغيل وبالثروة القومية إلى أفق جديدة، وتدفع بجيل شاب من أبناء الطبقة الوسطى التى استفادت من ثورة غاندى ونهرو الاجتماعية لينافس عالميا فى الصناعة والخدمات والعلوم وتكنولوجيا المعلومات، وتدفع معه ايضا بطبقة من أصحاب المليارات يضرب بهم المثل عالميا فى الثراء والبذخ، بينما بقيت غالبية سكان القرى والعشوائيات الحضرية تعانى من الفقر الشديد. وأخيرا فقد جاء الفوز الكاسح لحزب «بى.جى.بى» فى انتخابات العام الماضى، وهو المعروف بسياساته الاقتصادية التحررية، ليرفع التوقعات بعودة الهند إلى مسار النمو الاقتصادى (يقدر صندوق النقد الدولى أن يصل إلى 6.5٪ العام القادم متجاوزا لأول مرة الصين) ولكن يجدد القلق من زيادة اتساع الهوة الاجتماعية. وهكذا، بينما تقف الهند اليوم على أعتاب عصر جديد، بعد أن أصبحت دولة صناعية كبرى، وقوة عسكرية نووية لا يستهان بها، وطرفا أساسيا فى الاقتصاد والتجارة العالميين، إلا أن مشكلتها الاجتماعية تظل حاضرة وحقيقية.
وقد اخترت أن أتعرض لتجربة الهند هنا من منظور مؤسسى، أى عن طريق مقارنة ثلاثة أشكال مؤسسية ــ جمعية خيرية، ومؤسسة تعاونية، وبنك مملوك للدولة ــ كلها تعمل داخل نظام الاقتصاد الحر ولكن تسعى من خلاله لتنظيم الفئات الأضعف وإدماجها فى النشاط الاقتصادى من منظور جماعى يمنحها قوة تفاوضية وثقلا اقتصاديا، ويحد من تسلط الشركات الكبرى على الفرص والموارد واستئثارها بعوائد التنمية.
الشكل المؤسسى الأول هو جمعية أهلية خيرية فى مدينة «جايبور» عملها منذ أربعين عاما هو تركيب أقدام صناعية لمن تعرضوا لعمليات بتر سواء نتيجة حوادث عمل أو ألغام أو بسبب مرض السكرى. ولكنها ليست جمعية خيرية عادية، بل تجربة اجتماعية فريدة من نوعها ونموذج للفارق بين العطف على الفقراء وبين تمكينهم من محاربة الفقر. فالجمعية نجحت فى أن تبتكر تقنية بسيطة ورخيصة لصناعة الأطراف التعويضية (وهى معروفة عالميا بـ«ساق جايبور») جعلها فى العام الماضى وحده تركب ستين ألف ساق صناعية، وهى تقدم كل خدماتها بالمجان، كما أنها تتيح لمن عليه الدور أن يجلس فى ورشة التصنيع ليشاهد بنفسه صناعة الطرف التعويضى الذى يخصه. وبذلك نجحت خلال العشرين عاما الماضية فى مساعدة ما يزيد على مليون ونصف شخص على استرداد قدرته على المشى والحركة، ومعها كرامته الإنسانية وقدرته على العمل وكسب قوت حياته والإنفاق على أسرته دون حاجة لمنحة أو عطف. نحن هنا إزاء جمعية خيرية تحولت واقعيا إلى حركة اجتماعية لا تعالج فقط، بل تعمل على تحرير المعاقين وإخراجهم من دائرة الفقر والاحتياج. والتجربة قابلة للتكرار ولا تحتاج لموارد كبيرة، وقد عبر مدير الجمعية عن استعداده لزيارة مصر وإقامة معسكر لمدة شهر لتركيب الأطراف الصناعية، بل والنظر فى إقامة ورشة دائمة، إذا أبدت السلطات المصرية ترحيبا بذلك.
أما الشكل الثانى فتقدمه واحدة من أهم وأنجح المؤسسات الاقتصادية فى الهند، وهى المؤسسة التعاونية لمنتجى الألبان (المعروفة باسم «آمول»)، وقد نشأت عام 1946 فى مدينة «أناند» قرب عاصمة الولاية «أحمد آباد»، لكى تساعد صغار الفلاحين والفلاحات على بيع فائض اللبن من منازلهم مقابل ثمن عادل ودون حاجة لبذل جهد كبير. وتطور الأمر عبر العقود الماضية حتى أصبح عدد أعضاء الجمعية اليوم أكثر من ثلاثة ملايين عضو كلهم من صغار المنتجين وممن لا يزيد الفائض لديهم على لتر لبن أو لترين يوميا، وهم لا يستفيدون فقط من بيع اللبن بل أيضا من ربح سنوى نتيجة المساهمة فى المؤسسة التى أصبحت اليوم أكبر منتج للألبان والجبن والزبد وحتى الآيس كريم فى الهند وتجاوز حجم مبيعاتها السنوية الثلاثة مليارات دولار، أى ما يزيد على عشرين مليار جنيه مصرى. ونجاح هذه التجربة التعاونية كان وراءه أربعة أسباب: الإطار القانونى السليم، والوعى الاجتماعى بأهمية العمل التعاونى، ووجود تراث كبير من العمل الأهلى خاصة مع النساء وصغار المزارعين، ودعم الدولة للنشاط التعاونى واقتناعها به دون أن يكون ذلك مقابل ولاء سياسى أو ارتباط حزبى. وإذا كان الدستور المصرى قد أعاد التأكيد على أهمية الملكية التعاونية، فإن الأمر يجب ألا يتوقف عند هذا الحد، بل علينا أن نعيد مراجعة قوانين التعاون فى مصر، ونفتح مجال تأسيسها بقدر من الحرية، ونمكنها من العمل وندعمها لما يمكن أن تؤدى إليه من تنظيم وتحسين فرص صغار الفلاحين والحرفيين والتجار، وتمكينهم من توحيد مواردهم وجهودهم.
وأخيرا فإن النموذج الثالث لا ينتمى إلى عالم الجمعيات والتعاونيات، بل إلى عالم البنوك. فى العاصمة المالية «بومباى» كان لقائى مع «بنك الصناعات الصغيرة» وهو بنك مملوك فى أغلبيته للدولة ويتميّز بأنه متخصص فى خدمة قطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة ــ الصناعية والخدمية والتجارية ــ دون أن يفقد طبيعته كبنك خاضع بالكامل لرقابة البنك المركزى ولكافة متطلباته المالية والفنية. وهو يعمل على وصول الخدمات المالية لصغار المنتجين بما فيها تلقى الودائع والإقراض وتقسيط وتأجير الآلات والمعدات الزراعية والصناعية والتأمين على الحياة والممتلكات وتقديم الدعم الفنى والتسويقى. وقد نجح البنك فى أن يكون سندا لصغار المنتجين عن طريق ما يوفره لهم من التمويل وباقى الخدمات التى يحتاجونها، وكذلك بسبب تعامله معهم بوسائل وضمانات وسرعة تناسب طبيعة أعمالهم. وبالمناسبة فإن فكرة تخصيص بنك قطاع عام لخدمة المشروعات الصغيرة كانت مطروحة فى مصر من قبل واقتربت من التطبيق بعد الثورة مباشرة ولم تكتمل، وقد يمكن الرجوع إليها وإعادة تقييمها.
التجارب الثلاث السابقة والتى اخترتها من بين عدد من الزيارات الأخرى للعديد من المؤسسات الشبيهة، لا شأن لها ببرامج الدولة للحماية الاجتماعية والممولة من الخزانة العامة. ولذلك فإن قيمتها أنها تعتمد على موارد محدودة، وعلى مشاركة الناس، وعلى تنظيم وتجميع موارد ومدخرات وجهود ملايين الفقراء وصغار المنتجين لكى تتحول إلى قوة مؤثرة اقتصاديا وقادرة على حماية مصالحهم، وهى بذلك تتجاوز مفهوم العدالة الاجتماعية القائم على العطف والإحسان إلى مفهوم الحق والقدرة على التغيير الجماعى. ولكن هذا النموذج له شروط ومتطلبات لا يمكن إغفالها، على رأسها توفير الإطار القانونى السليم، ومناخ يتيح الحرية والاستقلال فى العمل دون تكبيل حكومى ودون توجس أو ملاحقة، واقتناع من الدولة بأن العمل الأهلى والتعاونى ركن أساسى فى التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وإذا كانت الدولة والقطاع الخاص ضلعين أساسيين فى التنمية الاقتصادية فإن الضلع الثالث الذى يكمل المثلث ويحقق توازنه هو المجتمع المدنى بما فيه من جمعيات ونقابات ومؤسسات تعاونية، وطالما بقيت مقيدة ومحل ريبة وتضييق فلا مجال لإطلاق طاقات ملايين الراغبين فى العمل والإنتاج ولا لتحقيق العدل الاجتماعى.