الرحلة الأسترالية
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الجمعة 24 مارس 2017 - 11:35 م
بتوقيت القاهرة
أمضيتُ الأسبوعين الماضيين فى زيارة لأستراليا. الدعوة جاءت من مركز الدراسات العربية والإسلامية فى الجامعة الوطنية بالعاصمة كانبرا، وبدعم من مجلس العلاقات الأسترالية ــ العربية الملحق بوزارة العلاقات الخارجية والتجارة. على جدولى وضعت عدة محاضرات عن الشأن المصرى فى جامعات مختلفة، ولقاءات مع أكاديميين يشتغلون على قضايا الشرق الأوسط، ولقاءات مع برلمانيين ودبلوماسيين. على جدولى أيضا وضعت زيارات لمدن سيدنى وملبورن وبرث، أى من شرق أستراليا الواقع على المحيط الهادى إلى غربها الواقع على المحيط الهندى.
ولأنها كانت زيارتى الأولى إلى أستراليا ولأنها بالفعل بلاد مختلفة عما مررت عليه من قبل، خرجت بحصيلة معقولة من الانطباعات والخبرات الجديدة أسردها عليكم فى الكلمات التالية.
الرحلة ــ سافرت إلى أستراليا من الساحل الشرقى للولايات المتحدة الأمريكية، وكان مسار رحلتى فى ثلاثة طائرات من واشنطن إلى لوس أنجلوس ومنها إلى سيدنى ومن الأخيرة إلى العاصمة كانبرا. اقترب مجموع ساعات الطيران من يوم كامل، وضاع يوم إضافى عند الوصول إلى أستراليا بسبب فارق التوقيت (غادرت واشنطن الجمعة الموافق ٣ مارس ووصلت سيدنى الأحد الموافق ٥ مارس). ولكونى أعجز باستمرار عن النوم فى الطائرات، أمضيت ساعات الطيران فى مزيج من العمل والقراءة ومشاهدة الأفلام ومتابعة خط سير الرحلات على الشاشة المثبتة أمام مقعدى. وقد كلفتنى المتابعة هذه لحظات متكررة من الفزع أثناء الرحلة الطويلة بين لوس أنجلوس وسيدنى (١٤ ساعة) والتى لا ترى فيها سوى مياه المحيط الهادى ولا يفضى خلالها سؤال طاقم الضيافة عن مدى احتواء الجزر القليلة التى تظهر بالمحيط على مطارات مجهزة لإنقاذ الطائرات حال الأعطال سوى إلى نفى سريع متبوع بابتسامات طمأنة منزوعة الروح ومحدودة الجدوى.
الطبيعة ــ ذهبت إلى محمية مترامية الأطراف بالقرب من كانبرا، اسمها تيدبينبلا. لم أكن قد شاهدت حيوان الكانجرو من قبل، ولم يسبق لى رؤية طيور زاهية الألوان أو الاستماع إلى أصوات للطيور تتماثل مع أصوات البشر. بدت تيدبينبلا كمكان خارج المكان، كوكب آخر تسكنه كائنات غير معلومة بعضها جميل وبعضها مخيف. قبل أن أتجه إلى القلب، طلبت منى سيدة من سيدات مكتب الخدمات الواقع على أطراف المحمية أن ألتفت إلى الثعابين والعقارب أثناء التجوال وأن أمتنع عن الاقتراب منها أو المرور من فوقها لأن بعضها سام. أما الجمال فحضر فى ألوان الببغاوات، وفى صوت طيور الكوكابارا، وفى عيون حيوانات الكانجرو التى شاهدتها تتفحصنى كما كنت أتفحصها، وفى التلال الخلابة المحيطة بالمحمية.
فى مدينة برث بغرب أستراليا، خصصت عدة ساعات للذهاب إلى «متنزه الملك» الذى يقولون عنه إنه المتنزه الأكبر فى النصف الجنوبى من الكرة الأرضية وأن به من الزهور والورود ما يفوق تنوعا الموجود بالقارة الأورىبية بأسرها. جمال الطبيعة الذى يستعصى على الأعين التى دربتها المدن على التجاهل ويستحيل مقاومة سحره حتى من عابرين للمكان على عجل، جمال الطبيعة هذا يتممه الاحتفاء بالعلم والبحث العلمى الذى تشع به جنبات المتنزه. لوحات كثيرة تسرد على المارين إنجازات العلماء فى مقاومة تداعيات العبث البشرى والتغيرات المناخية على الطبيعة وفى حماية التنوع النباتى، ولوحات أخرى تشير إلى تجارب تجريها أقسام البحث العلمى فى أستراليا للحفاظ على صنوف من الحيوانات والطيور بات الانقراض يتهددها. ثم يجد المار صندوقا للتبرعات عليه عبارة «تبرع بالعملة التى معك لإنقاذ الطبيعة الجميلة. شكرا لك».
المدن ــ فى حين يتسم ما شاهدته من كانبرا وبرث بالهدوء الشديد وبانخفاض الكثافة السكانية وبالمعمار الموظف لاتساع المكان، يختلف الحال فى سيدنى وملبورن. المدينتان الأخيرتان تتشابهان مع المدن الأمريكية والكندية الكبيرة، مع لمسات أوروبية فى ملبورن. تخطيط جيد، معمار يتناسب مع الكثافة السكانية، مساحات خضراء واسعة، ومعالم تاريخية أو معاصرة تجتذب السياحة الداخلية والعالمية. لفت انتباهى فى وسط ملبورن جسر للمشاة ثبتت عليه لوحات زجاجية كتبت عليها أسماء البلدان التى قدمت منها موجات المهاجرين إلى أستراليا، وبجوار اسم مصر إشارة إلى بدء الهجرة منها فى خمسينيات القرن العشرين وبمشاركة من مصريين ويونانيين وقبارصة وإيطاليين ارتحلوا من موانئ الإسكندرية وبورسعيد إلى القارة الواقعة على الحافة الأخرى للكرة الأرضية. توالت موجات الهجرة من مصر بأعداد محدودة فى الستينيات والسبعينيات ثم ارتفعت نسبيا فى الثمانينيات والتسعينيات.
وفى سيدنى، أبهرنى التنوع المعمارى فى المدينة المتجهة بأكملها إلى المحيط. ميناء يلتف حول مناطق سكنية كبيرة، مناطق قديمة صبغتها حياة البحارة فى القرون الماضية ووسائل الترفيه التى اعتادوا البحث عنها على اليابسة، الدار الشهيرة للأوبرا التى لا يقل تميز معمارها الداخلى عن معمارها الخارجى، المبانى السكنية العصرية بالقرب من الشواطئ خاصة شاطئ بونداى. أبهرنى أيضا تنوع البشر ألوانا وملامحا وأريحية الجميع (خاصة البعيدين عن الفقر أو العوز) فى حركة الحياة اليومية عملا وترفيها، هنا تذكر سيدنى هنا بمدن كنيويورك وسان فرانسيسكو ولوس أنجلوس.
الناس ــ هم فى أغلبيتهم خليط من ذوى الأصول الأوروبية والآسيويين والسكان الأصليين أو الأبورجينال، وهم فى مجموعات أصغر خليط من كل بقعة من بقاع الأرض به العرب والإيرانيون والأفغان والأتراك والأفارقة (خاصة من بلدان جنوب القارة كزيمبابوى وجنوب أفريقيا) والأمريكيين اللاتينيين. قبل سنوات اعتذرت الحكومة الأسترالية من السكان الأصليين عن الاضطهاد والظلم الذين لحقا بهما مع قدوم الأوروبيين محمولين على سفن البحرية البريطانية، ورتب الاعتذار تطبيق سياسات تعويضية كثيرة بعضها يعيد للسكان الأصليين الأراضى التى نزعت منهم غصبا أو يعوضهم عنها وبعضها الآخر يدعم الطلاب الأبورجينال فى المدارس والجامعات ويشجع المؤسسات الحكومية وشركات القطاع الخاص على توظيفهم. رتب الاعتذار أيضا بعض السياسات الرمزية من قبيل رفع علم الأبورجينال بجوار العلم الأسترالى على العديد من المبانى العامة والخاصة. غير أن مسألة الاعتذار والسياسات العملية والرمزية المطبقة لم ترتب خروجا سريعا للسكان الأصليين من واقع الاضطهاد والظلم، فالتهميش المجتمعى لم يزل الحقيقة الكبرى بشأنهم ومشاكل الجماعات الهامشية كالإدمان والجريمة المنظمة والعنف ضد النساء تطغى على كل ما عداها.
التقيت فى المدن المختلفة التى تواجدت بها بمهاجرين مصريين وعرب من خلفيات مهنية وأجيال عمرية متنوعة. بعضهم ينتمى إلى الجيل الثانى والثالث لأسر هاجرت إلى خلال القرن العشرين (اللبنانيون هم بين العرب الأقدم حضورا إلى أستراليا)، وبعضهم من شباب المهنيين الذين قدموا إلى سيدنى وملبورن وبرث منذ سنوات قليلة. وعلى قدر الزهو بقصص نجاحهم وهم جميعا خرجوا من بلاد العرب إما فى ظروف اقتصادية صعبة أو فى ظروف سياسية كارثية، على قدر الإحساس بالمرارة لنزيف العقول والطاقات البشرية المستمر فى بلادنا.
مراكز الدراسات العربية والشرق أوسطية ودراسات المجتمعات الإسلامية ــ حين تقارن أعداد الأكاديميين العاملين بهذه المراكز بأعداد نظرائهم فى مراكز الدراسات الآسيوية تتضح على الفور تراتبية أهمية المناطق والأقاليم. اقتصاديا وتجاريا وجيو ــ استراتيجيا، تملك أستراليا مصالح كبرى فى آسيا وجزر المحيط الهادى ولها مع بعض البلدان الآسيوية تواريخ طويلة ومعقدة (فرضها فى الأغلب الأعم الاستعمار البريطاني). أما بلاد العرب ومجتمعات الأغلبيات المسلمة من إيران وتركيا إلى باكستان، فالمصالح الأسترالية معهم محدودة والنظر إلى الأوضاع السائدة بهم تحكمه أحيانا القليل من اعتبارات السياسة الخارجية (وهى دوما فى تحالف وثيق مع الولايات المتحدة الأمريكية) وفى أحيان أخرى حقائق وجود مهاجرين ذوى أصول عربية ومسلمة فى أستراليا والقليل كذلك من الضرورات السياسية المرتبطة بدمجهم فى المجتمع.
لذا، ليس بمفاجئ أن يتجاوز عدد الأكاديميين العاملين فى قسم آسيا والمحيط الهادى بالجامعة الوطنية فى كانبرا حاجز الخمسين، ويقل فى قسم الدراسات العربية والشرق أوسطية إلى ما لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة. وينطبق ذات الأمر على الأقسام المشابهة فى جامعة سيدنى وجامعة غرب أستراليا فى برث. لذا أيضا تنحصر الاهتمامات البحثية للأكاديميين المتخصصين فى بلادنا إما فى قضايا الصراع والعنف والحروب وترابطاتها مع سياسات القوى الكبرى (شاركت أستراليا فى الغزو الأمريكي ــ البريطانى للعراق) أو فى دراسات للمهاجرين والتحولات القيمية والثقافية والاجتماعية التى يمرون بها والتمايزات بين أجيالهم المختلفة وسبل دمجهم فى المجتمع (تدعم الحكومة الأسترالية برامج إذاعية ناطقة باللغة العربية وبرامج للدمج المجتمعى تعنى بذوى الأصول العربية).
على الرغم من إرهاق السفر وفارق التوقيت والساعات الطوال فى الجو، ناهيكم عن الخوف من جزر المحيط الهادى التى لا تحوى مطارات لإنقاذ الطائرات حال تعطلها، كانت الرحلة الأسترالية رائعة ومكنتنى من التعرف على بعض مما يتميز به جزء من العالم لم أعرف عنه شيئا من قبل.