الصمت بجرعات كبيرة
سيد محمود
آخر تحديث:
الأربعاء 25 مارس 2020 - 1:45 م
بتوقيت القاهرة
بعد شهر من تفشى وباء الكورونا لا أحد يجادل أن شكل العالم سيتغير وأول ما يتغير هو الاقتصاد، وبعد ذلك تتوالى توابع التغيير الأخرى.
كشفت (كورونا) ما فى النظم الرأسمالية من عوار للحد الذى دفع أشد دعاة الليبرالية لتمجيد النموذج الصينى بعد أن ثبت ما فى الاستبداد من فوائد، على رأسها الضبط والربط وقدرة التحكم فى حركة الناس الذين ظهروا فى مقاطع مصورة وهم أقرب إلى الآلات التى استطاعت محاصرة الوباء وكما تم تركيب المستشفيات فى ساعات تم فكها كأنها ديكور فى فيلم تم تصويره.
وهذه القراءة على ما فيها من صحة تبدو سطحية، لأن الاستبداد وحده لم ينقذ الصين، بل إنه ورطها بالفعل فى بداية الجائحة بعد أن عمدت أجهزة الدولة إلى إخفاء الكثير من المعلومات ما ساعد على انتشار الفيروس، والأكيد أن ما أنقذ الصين هو العلم والإيمان بقدرة المجتمع على تنظيم نفسه، والاصطفاف وراء فكرة مواجهة الأزمة، والاستفادة منها فى مرحلة لاحقة.
ويؤكد العارفون بهذا البلد وأسرار نهضته أن ما ينجح هناك من الصعب استنساخه هنا بسهولة وبالتالى من غير الوارد تعميم النموذج الصينى فى أى مكان بالعالم.
والأكيد أيضا أن المقبل من الأيام لن ينصف الفقراء، كما لن تولد الاشتراكية بعد إجراءات تأميم بعض المنشآت التى لجأت إليها بعض الدول تحت ضغط الحاجة لمحاصرة الوباء، فمن الصعب خلق عالم أكثر إيمانا بالعدالة الاجتماعية لأن ضمير العالم استيقظ من (الصدمة)، فالخسائر تتوالى ولها فواتير سيدفعها الفقراء أولا لذلك يجدر بنا أن نردد من شعر أمل دنقل: أبياته الشهيرة فى كلمات سبارتاكوس الأخيرة: (لا تحلموا بعالم سعيد، فخلف كل قيصر يموت، قيصر جديد).
ومع ذلك علينا ألا نغرق فى التشاؤم، على الأقل عملا بنصيحة سعد الله ونوس حين قال: نحن (محكومون بالأمل) فلم ينتج عن اقتراب الموت من الجميع إلا تمسك أكثرنا بالحياة التى صارت على ما فيها من كوارث وأزمات جديرة بالعيش حقا.
كأننا اكتشفنا فجأة جمال عبارة محمود درويش (على هذه الأرض ما يستحق الحياة) وصرنا نعيش أيام العزل الإجبارى ولسان حالنا يردد أبياتا أخرى للشاعر وردت فى قصيدته الشهيرة (حالة حصار) يقول فيها: (نفعل ما يفعل السجناء، وما يفعل العاطلون عن العمل: نربى الأمل).
والأمل هو ما نملك الآن، على الرغم من هول اكتشافاتنا وجها لوجه هذه الأيام بعد تجاورنا فى البيت أغلب ساعات اليوم سواء لمشاهدة الأفلام التى تعرضها الفضائيات أو التقليب فى الكتب، صرنا نعرف أن أولادنا كبروا بيننا، وفاتهم التعرف على وجوه مثل إسماعيل ياسين، وعبدالحليم حافظ، وربما أحمد حلمى، ومحمد هنيدى، وقبل هؤلاء رموز وقامات فكرية ملأت حياتنا بمختلف أشكال العطاء، وتبدد حضورهم وبينهم الكثير من الأسماء التى كنا نعتقد فى خلودها الأبدى، لكن الواقع أثبت تهافت فكرة الخلود ذاتها حين أدركنا أن البشرية كلها مهددة بالفناء.
اكتشفنا ونحن وجها معنى الحاجة لابتكار (موضوع مشترك) أو نقطة بدء تنفرط بعدها الحكايات التى لم يعد لها مكان فى حياتنا، ففى الماضى الذى ربما كان قبل عشرة أيام وصار بعيدا الآن انتبهنا إلى أن أدوار أصابعنا تعطلت أو اختلفت، بعد أن ترتبط حضورها بأسطح الهواتف الذكية وكانت قبلها تؤدى أدوارا أخرى نسيناها كلها.
وذهبنا إلى هوة الصمت، وربما إلى الوحدة التى كشفتها (الكورونا) وصار علينا دفع أثمانها الفادحة ونحن نرى طوال أسبوع كامل كيف (تعطلت لغة الكلام) بالفعل وليس فى الشعر.
صار الزمن ثقيلا ونحن نفرط فى الاغتسال ونتآلف مجبرين مع روائح المطهرات، أما الوقت الذى كنا نشكو غيابه فقد توافر بجرعات كبيرة ــ كما أخبرنا الشاعر اللبنانى الصديق عباس بيضون فى ديوان بنفس العنوان ــ وتواصل حضوره وربما أكبر من قدرتنا على احتمال نموه المفاجئ.
وعلى الرغم من ذلك صار المستقبل بعيدا، كالمعانى الشاحبة التى يصعب وصفها أو الاستدلال عليها وتحول مثل فكرة الحياة ذاتها إلى علامة استفهام كبيرة أو راية فى مهب الريح.