دولة بن جفير!
يحيى عبدالله
آخر تحديث:
الأحد 24 مارس 2024 - 7:55 م
بتوقيت القاهرة
بداية، يجب التنويه، صونًا لحقوق الملكية الفكرية، إلى أن عنوان المقال مقتبس من مقال للكاتبة، سيما كيدمون، بصحيفة يديعوت أحرونوت (26 فبراير 2024). تثير شخصية وزير الأمن القومى الإسرائيلى، إيتمار بن جفير، زعيم حزب «قوة يهودية»، جدلًا كبيرًا بسبب انفلاته وعدم مسئوليته، وغوغائيته وتصريحاته المستفزة، لكن أيضًا بسبب عدوانيته الواضحة تجاه الشعب الفلسطينى بخاصة، واستهدافهم دون أن يُحاسب القاتل، أو بحسب تعبير، عوديد شالوم: «هو يسارع إلى دعم الشرطة فى كل استعمال للذخيرة الحية ضد العرب حيثما كانوا، دون أن يسأل ما الذى حدث، ولماذا وكيف.. ويقف خلف توزيع تصاريح السلاح بالجملة على المواطنين الإسرائيليين بدون أى رقابة، منذ بداية الحرب»؛ مشيرًا إلى أن اختياره للمنصب كان خطأ، لما يمثله سلوكه من خطورة: «هذا الرجل خطر، ما كان ينبغى من البداية جعله مسئولًا عن الشرطة.. مأساتنا، نحن الإسرائيليين، أنه لا يوجد مسئول رشيد يوقف بن جفير عند حده«. (يديعوت أحرونوت، 14 مارس 2024).
• • •
لا يقتصر عنف بن جفير على الشعب الفلسطينى فقط، وإنما يطال الشعب الإسرائيلى، المعارض لنهجه السياسى أيضًا. فقد مارست الشرطة الإسرائيلية، مؤخرًا، عنفًا غير مسبوق ضد المتظاهرات والمتظاهرين الإسرائيليين، سواء الذين يطالبون بعقد صفقة «الآن» مع «حماس» لإعادة الأسرى بأى ثمن، أم الذين يطالبون باستقالة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، لإخفاقه فى التعامل مع هجوم السابع من أكتوبر، أم الذين يطالبون بإجراء انتخابات مبكرة، بسبب فشل الائتلاف الحالى فى إدارة المعركة فى مواجهة «حماس»، وعدم تحقيق الأهداف التى أقرها مجلس الحرب، ومنها، القضاء على «حماس» وإعادة الأسرى.
تفاقم عنف الشرطة ضد الأشخاص المتظاهرين وشمل قطاعات عديدة، منذ إقامة الحكومة الحالية، التى يشغل فيها بن جفير منصب وزير الأمن القومى، وأصبح معارضو النظام هدفًا لعنف مشروع بلا حدود: «صار المتظاهرون ضد الحكومة، بدءًا من ضباط كبار بالاحتياط، ومسنات، وفتيات صغيرات، وطلاب بالمرحلة الثانوية، وآباء ثكالى، ومخطوفين أفرجت عنهم حماس، وأسر مخطوفين، وعابرى سبيل هدفًا مشروعًا لأفراد الشرطة. حتى أولئك الذين كتبوا على شبكات التواصل كلمة ضد النظام، يجرى استدعاؤهم للتحقيق فى أقرب مركز للشرطة. كما تغيرت وتفاقمت أيضًا طبيعة العنف. إذ صار مباحًا اليوم، بالمخالفة للقانون الصريح، رش وجوه المتظاهرين، بتيار من الماء أو الماء كريه الرائحة وبتصويب مباشر. صار مباحًا وضع القدم على الرقبة حتى الاختناق، وإلقاء قنابل ارتجاجية فوق رءوسهم بدون تحذير، وجرجرة الفتية على الطريق فى روث الجياد، وضربهم على رءوسهم بالهراوات«. (سيما كيدمون، يديعوت أحرونوت، 26 فبراير 2024). الأكثر من ذلك، أن سيما كيدمون، ترسم صورة مستقبلية سوداوية لحال الحريات فى ظل بقاء بن جفير وزيرًا للأمن القومى: «عما قليل سيطرقون أبواب كل من أبدى «إعجابًا» بكتابات ما على فيسبوك أو تويتر، سيقتحمون البيوت، وسيوقفون الناس للتحقيق وسيفتشون دواليبهم، سيعتقلون الصحفيين المعارضين، ويخضعونهم للتحقيق فى الأقبية، سيغلقون المتاحف والمسارح التى لن تصطف مع دولة بن جفير. هل ثمة شك لدى أحد منا فى أن هذا ما نحن عليه، فى أن هذا ما سنصير إليه، دولة بن جفير؟ أو أننا بالفعل على الأقل فى طريقنا إلى هناك؟ لكل من هو متفاجئ، الإجابة نعم. نحن فى الطريق إلى هناك».
هنا يثور السؤال: ما الروافد التى غذت هذا الكم من العنف لدى بن جفير؟ الإجابة بسيطة ومنطقية، توفرها البيئة التى نشأ فيها الرجل. ولد الرجل لأبوين من أصل عراقى، وهو نتاج طبيعى لبيئة استيطانية متطرفة (نشأ فى مستوطنة تُسمى «مفسيرت تسيون» بجبال غرب القدس)، للحاخامات فيها تأثير طاغ، من حيث صياغة عقول الطلاب فى المدارس الدينية اليهودية، ومن حيث صياغة برامج الأحزاب الدينية، إذ لكل حزب منها مرجعية دينية، هى التى تملى على الوزراء، من أعضاء الحزب، وعلى أعضاء الكنيست الممثلين له، ما يجب أن يُفعل. يمثل الحاخام المتطرف، دوف ليئور، المرجعية الدينية لحزب بن جفير، وهو لا يمتد تأثيره «على التنظيم السرى اليهودى فقط، وإنما على المسار أيضًا الذى سبق اغتيال رئيس الحكومة إسحاق رابين، حيث اتُّهم بأنه المصدر الرئيس «للفتوى«، التى أجازت اغتياله (على خلفية اتفاقيات أوسلو) وبأن قاتله، يجآل عامير، كان يتردد عليه، كثيرا، لمعرفة رأى الشريعة اليهودية والتوراة فى من يسلم أجزاء مما يُسمَّى «أرض إسرائيل» إلى الأغيار (سفى رخليفسكى، «حمار المسيح»، «يديعوت سفاريم»، 1998م).
شغل هذا الحاخام، لسنوات، منصب رئيس لجنة حاخامات الضفة وغزة بعد اغتيال رابين، ودعم كتاب الحاخاميْن، إسحاق شبيرا، ويوسف إليتسور، المسمى: «شريعة الملك»، وهو كتاب من جزأين، صدر الأول عام 2009، ويتناول شرائع الحرب، و«يفتى» بجواز قتل الأغيار، بمن فى ذلك الأطفال، سواء وقت السلم أم وقت الحرب، وصدر الجزء الثانى عام 2016، ويتناول شرائع الناس والحكم، وأثار ضجة كبيرة، حتى إن قضاة المحكمة العليا فى إسرائيل شنوا هجومًا لاذعًا ضده وقضوا بأنه «من الصعب التشكيك فى الموقف العنصرى للمؤلفيْن». وعن قوة تأثير هذا الحاخام على بن جفير يشير، موشيه نستلباوم، إلى أنه «لو أراد المفتش العام للشرطة، كوبى شبتاى، تمديد عام آخر فى منصبه، ولجأ، مباشرة إلى الحاخام، دوف ليئور، لمنحه مبتغاه وليس نصف عام فقط مثلما فعل بن جفير» (معاريف، 8 مارس 2024). يغذى الحاخام، دوف ليؤور، عنف المستوطنين ضد الشعب الفلسطينى، ويحرض على قتلهم، إذ تبنى رأيا واضحا فى مذبحة الحرم الإبراهيمى بالخليل (ارتكبها شخص متطرف يُدعى، باروخ جولدشتاين، عام 1994، قتل خلالها 29 مصليًا فلسطينيًا وأصاب نحو 150) ووصف استعداد جولدشتاين للتضحية بحياته (قتله المصلون الفلسطينيون بعد نفاد الذخيرة من بندقيته) بأنه فعلٌ يستهدف الردع فى نظره« (يائير شيلج، معاريف، 8 مارس 2024).
• • •
هذا هو ما صاغ عقل وتفكير بن جفير، حتى إن جهاز الأمن العام الإسرائيلى ـ الشاباك ـ كان يصنفه، حين كان ناشطا ضمن نشطاء اليمين المتطرف، المنتشرين فى المستوطنات، وقبل دخوله معترك الحياة السياسية، بأنه يمثل خطرًا محتملًا على الأمن، كما يقول، روعى شارون، فى كتابه: «فأنتقم ـ قصة الإرهاب اليهودى» (دار نشر: كنيرت زمورا بيتان 2023م): «فى نهاية التسعينيات أصبح بن جفير مشبوها ينطوى على خطر محتمل فى نظر القسم اليهودى بالشاباك (جهاز الأمن العام الإسرائيلى)، شأنه شأن نشطاء اليمين الذين يخصص لهم أفراد القسم اليهودى ملفًا استخباريًا فى أعقاب شبهات بتورطهم فى نشاط غير قانونى يرتبط بالإرهاب. كانت الشبهات ضد بن جفير ذات سقف منخفض وتعلقت، بخاصة، بتوزيع إعلانات محسوبة على حركة «كاخ» (الحركة العنصرية المتطرفة، التى أسسها الحاخام، ميئير كهنا، التى كانت تدعو إلى طرد كل الفلسطينيين) وبطبع منشورات، وبلصقها وتوزيعها. أدين بن جفير بدعم منظمة إرهابية وبالتحريض على العنصرية. وأدين مرة واحدة حتى بكتابة شعار «صدق الحاخام كهنا» على أحد الجدران بالقدس».
ويقول مسئول كبير سابق فى القسم اليهودى بالشاباك عنه (طبقًا للكتاب المشار إليه سابقًا): «اشترك بن جفير فى تحطيم نوافذ (لبيوت أو محلات للفلسطينيين) أو فى بعثرة البسْطات (البضاعة التى يبيعها الباعة الفلسطينيون الجائلون على الأرض)، لكنه فضَّل دائمًا تقريبًا الحفاظ على يدين نظيفتين وإفساح المجال لرفاقه للقيام بالعمل القذر (أى عمليات قتل الفلسطينيين)». ظل جُل اهتمام بن جفير على امتداد السنين، (بحسب الكتاب) محصورًا فى مجال الترويج الإعلامى لليمين المتطرف وفى القيام بتصرفات استفزازية، حيث شارك فى حملة من أجل إطلاق سراح يجآل عامير (قاتل رابين)، واحتفل بدخول رئيس الحكومة السابق، أريئيل شارون (صاحب خطة الانسحاب من غزة عام 2005 وتفكيك التجمعات الاستيطانية اليهودية بها) فى غيبوبة لم يفق منها، ووزع منشورات ضد زيارة البابا، يوحنا بولس الثانى، للقدس، وتنكر فى هيئة باروخ جولدشتاين، وتعهد بإحراق صورة الرئيس الأمريكى، باراك أوباما (لسعيه إلى تطبيق حل الدولتين وإجبار إسرائيل على عقد مفاوضات مع السلطة الفلسطينية فى واشنطن حول هذا الحل عام 2010) ومثَّل، بعد اعتماده محاميًا، فى عام 2012، عشرات من المشتبه بهم من اليهود فى ارتكاب جرائم ذات خلفية شوفينية ضد الفلسطينيين، مع استمراره فى أن يكون محورًا مركزيًا فى النسق الإعلامى لنشطاء الإرهاب اليهودى.
• • •
السؤال الآن هو: إذا كان الرجل صنيعة بيئة استيطانية واضحة، رضع العنصرية منذ الصغر، وشب وسط نشطاء يمينيين قاتلين للفلسطينيين، ولا يزال يتبنى الأفكار العنصرية التى رعاها ميئير كهنا، فما الذى دفع بنيامين نتنياهو إلى ضمه إلى ائتلافه الحاكم؟! هناك أكثر من دافع. الأول، أنه ينتمى إلى الطيف السياسى نفسه الذى ينتمى إليه نتنياهو، أى الطيف اليمينى. والدافع الثانى، دافع انتهازى، فرضه حرص نتنياهو على البقاء، سياسيا، إذ بدونه وبدون أعضاء الكنيست الستة لحزبه ما كان لائتلاف نتنياهو أن تقوم له قائمة، ولما كان رئيسا للحكومة الآن. أما الدافع الثالث، فهو دافع وظيفى، بمعنى، أن نتنياهو يوظف التصريحات والأفعال المستفزة لـ«بن جفير»، ويفيد منها، بشكل شخصى، إن على الصعيد الداخلى، أم على الصعيد الخارجى، ليبدو وكأنه «معتدل»، ورجل دولة مقارنة به.