حول البورجوازية الثورية
أهداف سويف
آخر تحديث:
الخميس 24 أبريل 2014 - 11:22 ص
بتوقيت القاهرة
جاءتنى ضيفة من دلهى، ناشرة نسوية ذات تاريخ وقائمة منشورات مهمة، جاءت لتشارك فى مهرجان «الهند على ضفاف النيل» الذى تقيمه السفارة الهندية فى كل ربيع. زارتنى السيدة فى بيتى، وشربنا الشاى واتفقنا على أن ظاهرة الحكومات والمؤسسات التى تعادى الشباب ـ أو لنقل التى تعادى سياساتها مصالح الشباب ومستقبلهم ـ ظاهرة منتشرة فى العالم وأن الشباب على دراية تامة بذلك ولن يسمح باستمراره طويلا. سألتنى عن سياسة الحكومة الثقافية فحكيت لها عما يحدث الآن فى الفسطاط، كمثال لسياسات الدولة التى تحرم الشعب من موروثه الحضارى، فتقوم الحكومة ـ يقولون بأمر رئيس الوزراء ـ بردم موقع به آثار وحفريات عمرها ألف عام، موقع ثرى بالمعلومات حول حقبة مهمة من تاريخ العاصمة، بدعوى تحويله إلى حديقة عامة، وكأن الناس، خلاص، لا تنقص حياتهم إلا هذه البقعة من الأرض يتريضون فيها. سألتنى عما حدث فى المتحف المصرى يوم ٢٨ يناير (٢٠١١) فحكيت لها كيف حماه الشباب من الحريق ومن النهب ولم يتركوه إلا وقد سلموه إلى القوات المسلحة. قالت إن الحكايا تروى أن الثوار نهبوا المتحف. قلت من يتهم الثوار عليه أن يأتى بالدليل، وقد كثر الكلام حول الكاميرات المعلقة على المتحف وما سجلته وما لم تسجله.
•••
لفتني إبني، عمر، إلى العلومة الآتية: فى كتابه «زمن الثورات» (١٩٦٢) يتحدث المؤرخ إريك هوبزبوم عن حراك «البورجوازية الثورية» السياسى الذى تبلور فى فرنسا مع وعقب ثورتها، فيصف الشكل الأساسى الذى اتخذه ـ والذى ساد كل حراك للبورجوازية الثورية فى كل مكان بعدها، يقول «فى الثورة سنرى المرة بعد المرة الإصلاحيين المعتدلين من الطبقة الوسطى يحشدون الجماهير ليواجهوا الرافضين للتغيير أو الثورة المضادة. سنرى الجماهير تتدافع فتَعْبُر أهداف المعتدلين باغية ثورتها الاجتماعية الحقيقية، وسنرى المعتدلين ينقسمون: فريق يتجه يمينا لينضم إلى القوى الرجعية، وفريق يتجه إلى اليسار، يصر على الاستمرار ـ بمعاونة الجماهير ـ فى محاولة تحقيق تلك الأهداف المعتدلة التى لم تتحقق، ويخاطر حتى بفقدان السيطرة على الجماهير والثورة. وهكذا فى إعادات وتقاسيم على أنماط واضحة للحراك: حشد جماهيرى ـ ميل إلى اليسار ـ انقسام المعتدلين وميل إلى اليمين ـ إلى أن تنتقل أغلبية الطبقة الوسطى إلى المعسكر اليمينى (الأكثر محافظة) أو تنهزم أمام الثورة الاجتماعية. وفى معظم الثورات البورجوازية اللاحقة (أى ما بعد الثورة الفرنسية) سيتراجع الليبراليون المعتدلون، أو ينتقلون إلى المعسكر المحافظ، فى مرحلة مبكرة من الثورة. وفى الواقع أن الطبقة الوسطى أثناء القرن التاسع عشر غالبا ما عزفت عن إشعال الثورات خوفا من تبعات لا يمكن حسابها، وفضلت التفاوض والتسويات مع الملك والأرستقراطية».
ولا يخفى على القارئ الكريم التشابهات ـ ليست تطابقات لكنها بالتأكيد تشابهات ـ بين ما يحدث عندنا وما يصفه المؤرخ الكبير، رحمه الله. فقد بدأت ثورة ٢٥ يناير، بدعوة من شباب من الطبقة الوسطى، بمطالب محدودة خاصة بأداء وعقيدة وزارة الداخلية، سرعان ما تجاوزها الحراك الشعبى فصار مطلبه العدالة الاجتماعية التى لا تتأتى إلا بإسقاط النظام. ومع دفع ومقاومة القوى الرافضة للتغيير المطلوب (والراغبة فقط فى التغيير الذى يصب فى مصالحها الضيقة) انقسمت الطبقة الوسطى «الثورية» ذلك الانقسام الموصوف أعلاه. ولعل ما ساعد على ذلك الانقسام المهارة التى أدار بها أحداث ٣٠ يونيو من أدارها وأدار ما لحقها من أيام، فأعاد إنتاج صورة مضبوطة للحراك الثورى: الناس تخرج طالبة هدفا محدودا هو الاستفتاء على انتخابات رئاسية مبكرة ـ فى محاولة للتخلص بطريقة شبه قانونية من رئيس فقد ثقة الشعب ـ وفجأة يتجاوزها الحراك «الثورى» إلى مطالب بعزل ذلك الرئيس ثم «تفويض» من يروض الموالين له ومعهم قطاع لا يستهان به من الشعب. وأتاحت هذه المناورة لمجموعات كبيرة من الطبقة الوسطى الثورية أن تصطف مع السلطة وتظل مع «الثورة» فى آن واحد، حيث إن السلطة أصبحت سلطة ثورية بصك ٣٠ يونيو والتفويض. كما أتاحت لها فرصة ما تظنه التخلص من مُنَغِّص قديم مَثَّلَه ذلك الرئيس المعزول. وهنا نرى التقاسيم الخاصة بنا على أنماط الحراك السياسى الثورى الذى يصفه هوبزبوم: ذلك الانقسام الإضافى حول محور «السياسة ذات المرجعية الدينية».
قبل وفاته فى أكتوبر ٢٠١٢ وهو فى الخامسة والتسعين من العمر قال هوبزبوم فى حوار له إن من الخطأ وصف ثورة ١٨٤٨ الأوروبية بالفشل، فهى ـ ومن منظور تاريخى أطول ـ غيرت خريطة أوروبا الجغرافية والسياسية ومهدت الطريق أمام الإصلاحات الاجتماعية والسياسية العميقة التى شهدها النصف الثانى من القرن التاسع عشر. (لنا، بالطبع أن نتساءل هل كانت أوروبا لتتمكن من إجراء وتحمل هذه الإصلاحات لولا حشد توجهها الاقتصادى وطاقتها التوسعية لبناء امبراطوريات استعمارية عنصرية مستغلة فى بلاد الغير بقوة السلاح؟ لكن حديث هوبزبوم كان بالأساس حول الثورات العربية) وقال بالمثل إن الثورات العربية الآنية قد تبدو وكأنها تفشل لكن الأكيد أنها ستكون إلهاما لإصلاحات مهمة فى المستقبل.
الطريف فى حالنا طبعا هو فكرة «الريبَكِجنج» أو مجهودات إعادة تغليف الواقع لنقتنع أن ما نراه من إحكام قبضة الشكل الجديد للنظام القديم هو فى الواقع تجليات الثورة الناجحة وأن ما علينا سوى الكف عن الحديث عن الحرية / القمع، والعدالة الاجتماعية / الظلم، والعيش / الفقر لتستقر الأمور ونعيش نجاح الثورة، وإن كان نجاحا يظلله الإرهاب والحرب عليه والمؤامرة الكونية ومقاومتها والتحديات الاقتصادية وشد الحزام ـ لكننا، كشعب يعيش انتصار ثورته، سننعم بالاستقرار ونشم الهوا على أنقاض تاريخنا فى حديقة جديدة.
وهناك بالطبع اختلافات بين ما نحن فيه وما يصفه صاحب «زمن الثورات». بعض هذه الاختلافات سطحى، فعلينا، مثلا، استبدال عبارة «الملك والأرستقراطية» بعبارة مثل «الدولة ومجتمع الأعمال الملتف حولها». لكن هناك نقطة جوهرية ننتبه إليها، وهى أن القوى والأفراد الذين قاموا بمجهودات الحشد السابقة لثورة ٢٥ يناير والمؤدية لها لم يدعوا أبدا أنهم قيادات للثورة ولم يتصوروا أو يزعموا أن لهم سطوة أو حكم على جماهيرها. بل بالعكس فقد تميز كل من ادعى قيادة ثورة ٢٥ يناير بعدم المصداقية ـ أحيانا إلى درجة الهزل. أما المصداقية المستمرة ـ فى صفوف الثورة ـ فهى لمن لم يدعوا قيادة ولم يقاربوا سلطة ولم يحيدوا عن طريق.
والكثير منهم اليوم إما محبوس أو ملاحق قضائيا. وهم فى الصدارة من الذهن والقلب؛ الشباب المحبوس والمعتقل سواء كان من شباب الثورة أو ليس له علاقة بالثورة، شباب البلد المحبوس والمعتقل، المضرب منهم عن الطعام ردا على الظلم، والمحتاج إلى الرعاية الطبية، والممنوع من الدراسة والامتحانات، والمعطل حياته وأعماله وزيجته، والمحروم من أطفاله، والمعذب أهله. أعدادهم، وانتشارهم، وتنوعهم، والتبرج فى القسوة والدناءة التى تعامل بها الداخلية الكثير منهم ـ كل هذا يدفعنا إلى مطلب واحد: على الحكومة التراجع عن قانون التظاهر غير الدستورى الظالم والإفراج عن جميع المعتقلين بموجبه. وقد أعلنت حملة «الحرية للجدعان» والحركات والمنظمات يوم السبت ٢٦ ابريل يوم «أسقطوا القانون وطلعوهم من السجون».
•••
بعثت لى الناشرة الهندية بإيميل بعد أن غادرت تقول أنها سألت شابة مصرية التقت بها عددا من المرات أثناء الرحلة حول ما حدث للمتحف المصرى يوم ٢٨ فأكدت لها أن الثوار نهبوه. الشابة المصرية لطيفة ونشطة وفى الأغلب كانت «مع الثورة». سألتها الضيفة عن الدليل فقالت إن هناك أفلاما سجلتها الكاميرات للثوار وهم ينهبون المتحف. سألتها الضيفة إن كانت قد رأت هذه الأفلام وتأكدت منها، قالت لأ، لكن «الجيش بيقول إنها عنده».