الولايات المتحدة تتغير.. ما انعكاسات ذلك على إسرائيل؟
من الصحافة الإسرائيلية
آخر تحديث:
الأربعاء 24 أبريل 2019 - 9:40 م
بتوقيت القاهرة
المؤتمر الأخير الذى نظمته منظمة «أيباك»، اللوبى الداعم لإسرائيل فى واشنطن، فى نهاية مارس وحضره نحو 18.000 مشارك، جرى تحت شعار «معا إلى الأبد» و «معا فى الخير». ولم يكن هذا مصادفة. فقد أقيم هذا المؤتمر المهم على خلفية سجال جماهيرى وسياسى عاصف جرى فى الولايات المتحدة فى إثر سلسلة من التصريحات التى أدلت بها عضوا الكونجرس من الحزب الديمقراطى إلهان عمر (مينيسوتا) ورشيدة طليب (ميشيغان)، المؤيدتان جهارا حركة «المقاطعة الداعية إلى مقاطعة إسرائيل»، واللتان فازتا بعضوية مجلس النواب الأمريكى فى الانتخابات النصفية التى جرت فى منتصف نوفمبر 2018. وفى يناير فى إطار النقاش الذى جرى بشأن مشروع قانون يرمى إلى محاربة المقاطعة ضد إسرائيل، نشرت طليب تغريدة قالت فيها إن من يؤيد هذا القانون «نسى إلى أى دولة ينتمى». وبعد ذلك ببضعة أسابيع لمّحت عمر، فى تغريدة خاصة، إلى أن منظمة «أيباك» «تشترى» أصوات المشرّعين الأمريكيين، ثم إلى ضرورة بحث ما إذا كان «قسم الولاء لدولة أجنبية يُعتبر أمرا مقبولا» فى الولايات المتحدة. هذه الرائحة المعادية للسامية التى ترافق التلميحات بشأن المال اليهودى الذى يتحكم ظاهريا، وبحسب الادعاء، فى السياسة الخارجية الأمريكية، إلى جانب التصريحات بشأن «الولاء المزدوج»، أثارتا عاصفة قوية جدا لم تهدأ بعد.
تؤشر هذه الأحداث إلى وجهات وتحولات دراماتيكية تحدث فى المجتمع الأمريكى بصورة عامة وفى السياسة الداخلية الأمريكية بصورة خاصة، كما تدل على إسقاطاتها المحتملة على يهود الولايات المتحدة وإسرائيل على حد سواء. يبرز فى الولايات المتحدة، خلال السنوات الأخيرة بوجه خاص، تعمُّق واحتدام الاستقطاب الجماهيرى والسياسى، تعمُّق سياسات الهوية، اتساع الخطاب الشعبوى المصحوب بمظاهر الكراهية الفظة والعنيفة فى بعض الأحيان، تنامى تأثير العناصر المتطرفة فى السجال العام وفى جدول الأعمال، الهجوم المتصاعد ضد النخب التقليدية والمؤسسات التى تمثل النظام العام وانهيار مبدأ الإجماع الثنائى على الحزب كقاعدة للتشريعات والسياسات. ويشكل هذا الجو العام أرضية مؤاتية لظهور موجات معاداة السامية من جانب اليمين، إضافة إلى مساعى نزع شرعية إسرائيل من جانب اليسار. وتختلط هذه كلها بالنقد المتزايد للسياسة الإسرائيلية، وخصوصا فى مسألة الصراع الإسرائيلى ــ الفلسطينى ومنهجيات التعامل مع الأقلية العربية فى إسرائيل، وكذلك فى سياق العلاقات الوثيقة بين إدارة الرئيس دونالد ترامب والحكومة الإسرائيلية.
***
شهدت فترة إدارة الرئيس ترامب تعمُّق هذه الوجهات بصورة واضحة، وخصوصا على خلفية الأسلوب الفظ الذى ينتهجه الرئيس شخصيا، وموقفه النقدى الحاد حيال قطاعات ومؤسسات أمريكية متعددة وتفضيله الواضح، أكثر من مرة، شرائح المؤيدين له على حساب النهج الرسمى. والملاحظ أن أسلوب العربدة الكلامية فى السجال الجماهيرى والسياسى ليس حكرا على قاعدة مؤيدى ترامب من أوساط اليمين المحافظ فقط، بل إن الرئيس نفسه قد هيأ قواعد اللعبة هذه لمعارضيه الكثيرين فى الجانب الأيسر من الخريطة السياسية ــ الحزبية.
إن دخول عمر وطليب إلى الكونجرس يمثل اقتحام هذه الظاهرة لقلب المؤسسة الأمريكية ويبدو واضحا أن لهاتين السيدتين ومؤيديهما تأثيرا متزايدا فى السياسة الأمريكية الداخلية بصورة عامة، وفى أداء الحزب الديمقراطى وإدارة شئونه الداخلية خصوصا (على الرغم من أن الأغلبية الساحقة من ممثّليه فى مجلس النواب مؤيدة لإسرائيل): فى البداية تعالت فى صفوف الحزب أصوات تدعو إلى اتخاذ إجراءات شخصية ضد كل من عمر وطليب، ثم طُرحت مبادرة لإقرار بيان استنكار لمعاداة السامية فى الكونجرس. لكن، بعد أن واجه الحزب صعوبة فى التوصل إلى اتفاق بشأن هذا البيان، طُرح على الكونجرس مشروع قرار لإصدار بيان أوسع تضمن إشارة إلى الإسلاموفوبيا وكراهية الأجانب أيضا. وقد كانت هذه تجسيدا للتسوية التى أملتها الأصوات المتطرفة فى داخل الحزب، بينما عُرضت النتيجة كأنها انتصار شخصى لعمر التى دفعت نحو صدور إدانة غير مسبوقة عن الكونجرس الأمريكى للإسلاموفوبيا.
بدأ الاستقطاب الداخلى المتصاعد فى الولايات المتحدة بإلقاء ظلاله على الدعم لإسرائيل أيضا، وهو الموضوع الذى ظل محل إجماع مقبول من الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء طوال سنوات عديدة جدا. ويتحول دعم إسرائيل بالتدريج إلى مسألة خلافية ترتبط بالحزب الجمهورى بصورة أساسية. وفى إثر جملة التصريحات الإشكالية التى صدرت عن عضويْ الكونجرس الديمقراطيتين، ادعى الرئيس ترامب أن فوز الديمقراطيين فى الانتخابات المقبلة، المقرر إجراؤها سنة 2020، من شأنه «أن يترك إسرائيل وحيدة»، وأنه يلاحظ خروجا جماعيا لليهود من الحزب الديمقراطى.
***
تنطوى هذه التطورات على دلالات كبيرة الوزن والأهمية بالنسبة إلى إسرائيل:
أولا، الحكومة الإسرائيلية تتماهى تماما مع سياسة الرئيس ترامب وتجد صعوبة جدية فى المحافظة على علاقات جيدة مع الحزب الديمقراطى وممثليه. ما من شك فى أن علاقات العمل الجيدة بين إسرائيل والولايات المتحدة تشكل رصيدا مهما جدا وعاملا حاسما فى الأمن القومى الإسرائيلى، إلاّ أن التماهى المطلق مع واشنطن يضع أمام إسرائيل مصاعب جدية فى مجال علاقاتها مع معارضى الرئيس ترامب الكثيرين فى مختلف أنحاء العالم، فى الولايات المتحدة نفسها وبين مجموعات اليهود الأمريكيين أيضا. وقد برزت هذه المصاعب بصورة حادة جدا فى ضوء مظاهر معاداة السامية من اليمين التى رفض الرئيس ترامب استنكارها بصورة واضحة وحازمة (كما فى أحداث شارلوتسفيل فى ولاية فيرجينيا سنة 2017)، وكذلك فى شعور أوساط واسعة من اليهود الأمريكيين بأن المذبحة فى كنيس مدينة بيتسبرغ (فى ولاية بنسلفانيا) فى أواخر سنة 2018 كانت إحدى ثمار معاداة السامية التى عادت لترفع رأسها فى عهد إدارة الرئيس ترامب.
ثانيا، فجوة تتعمق باستمرار بين يهود الولايات المتحدة ودولة إسرائيل تعود جذورها إلى خلافات فى الآراء والمواقف فى شئون دينية وقِيمية وسياسية. على المستوى الدينى، يشعر كثيرون جدا من الأغلبية غير الأرثوذكسية التى تشكل نحو 90% من يهود الولايات المتحدة، بالإساءة جرّاء عدم اعتراف إسرائيل بيهوديتهم. وعلى المستوى القِيمى والسياسى تتعالى بين يهود الولايات المتحدة، الليبراليون، فى أغلبيتهم الساحقة، انتقادات متزايدة ضد إجراءات غير ليبرالية وغير ديمقراطية، من وجهة نظرهم، اتخذتها الحكومة الإسرائيلية، مثل «قانون القومية» وسياستها حيال مسألة الصراع مع الفلسطينيين.
تمثل هذه الظواهر والوجهات مصدر خطر وتهديد على اثنين من الأرصدة الأكثر حيوية لأمن دولة إسرائيل القومى: الأول ــ منظومة العلاقات المميزة بين إسرائيل والولايات المتحدة. فالفترة الحالية، التى تشهد ذروة فى العلاقات الحميمة بين الحكومتين، تحمل فى المقابل أيضا تحديا متصاعدا يتمثل فى صيانة التأييد الجماهيرى والسياسى من كلا الحزبين لدولة إسرائيل، باعتباره الدعامة المركزية للعلاقات بين الدولتين. والثاني ــ التماسك الداخلى بين يهود الولايات المتحدة والعلاقة بينهم وبين دولة إسرائيل. يمكن التقدير أن مسألة تأييد إسرائيل ستكون، لأول مرة، مسألة مركزية فى السجال السياسى الذى سيجرى فى الولايات المتحدة خلال الحملة التمهيدية لانتخابات الرئاسة فى سنة 2020. وعلى هذه الخلفية يُتوقع أن تزداد أهمية التحدى الماثل أمام هذين الرصيدين، أكثر مما هى عليه الآن بكثير.
لذا يجب أن تكون المحافظة على هذين الرصيدين على رأس سلم أولويات صناع القرار فى إسرائيل:
على حكومة إسرائيل تجنُّب التدخل فى السياسة الداخلية الأمريكية وتجنُّب تفضيل طرف على آخر، وخصوصا حيال اقتراب بدء حملة الانتخابات الرئاسية. يجب تعزيز قنوات الحوار مع الحزب الديمقراطى وممثليه، بموازاة المحافظة على العلاقات الوثيقة مع الحزب الجمهورى.
ثمة حاجة إلى نشاط إسرائيلى واسع، بدعم مؤيديها فى الولايات المتحدة، من أجل تعزيز التأييد والتعاون مع قطاعات شبابية ليبرالية ـ تقدمية ومع مجموعات نامية مهمة، بينها الهسبان والأمريكيون الأفارقة. هذه قاعدة ضرورية من أجل المحافظة على تأييد كلا الحزبين لإسرائيل وكأداة لمحاربة معاداة السامية والتصدى لحملات ضرب شرعية إسرائيل.
يجب بذل جهود مشتركة مع يهود الولايات المتحدة من أجل تطوير منظومة العلاقات المتبادلة، مع التركيز على اليهود الشبان الليبراليين الذين تشهد علاقتهم بإسرائيل تراجعا واضحا، وكذلك انتماؤهم إلى المجتمع اليهودى فى كثير من الأحيان.
عملية اتخاذ القرارات فى إسرائيل ـ فى القضايا الخارجية والقضايا الداخلية على حد سواء ـ تستوجب البحث المسبق فى الإسقاطات المحتملة على كل من هذين الرصيدين الحيويين.
باحثان فى معهد دراسات الأمن القومى فى جامعة تل أبيب
مباط عال
مؤسسة الدراسات الفلسطينية