ما وراء تسريبات صفقة القرن
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأربعاء 24 أبريل 2019 - 9:45 م
بتوقيت القاهرة
كأنه سباق على تقصى ما خلف الأبواب الموصدة من ترتيبات ومشروعات وخطط دخلت وكالات أنباء وصحف ومجلات دولية على قدر من الصدقية المهنية على خط تسريبات «صفقة القرن».
لم يعد الأمر حكرا على الصحافة الإسرائيلية، التى دأبت على نشر كل ما يصل إلى علمها كـ«بالونات اختبار» لردات الفعل قبل أى إعلان عن الصفقة وصيغتها الأخيرة.
التسريبات باختلاف مصادرها أقرب إلى أفكار عامة لا خرائط نهائية، تتفق فى الخطوط العريضة وتتباين فى الترتيبات المقترحة.
لأكثر من مرة أرجئ الإعلان الرسمى عن نصوص «صفقة القرن».
الإرجاء المتكرر ــ بذاته ــ مؤشر على الصعوبة البالغة لتمريرها.
حسب ما هو معلن فإن الصفقة سوف يعلن عنها عقب تشكيل «بنيامين نتنياهو» حكومته الجديدة الأكثر تشددا ويمينية بعد أن كسب انتخابات الكنيست.
قد يقال إن «نتنياهو» أكثر اعتدالا من حلفائه فى التشكيل الحكومى، وإنه يتعرض لضغوط لا قبل له بها لتسويغ التنازلات باسم «الواقعية».
هذا الكلام لا يستبعد البوح به قريبا، وهو لا يستحق مجرد الالتفات إليه.
هناك تعقيدات هائلة لا سبيل للقفز فوقها بأعمال الحواة، أو بقبضة القوة المجردة، مثل قضية القدس برمزيتها الدينية والسياسية ومستوطنات الضفة الغربية التى يراد ضمها للدولة العبرية ومشروعات تبادل الأراضى حتى تكون إسرائيل «دولة يهودية» لا مكان لأصحاب الديانات الأخرى فيها ولا حقوق للفلسطينيين فوق أراضيهم.
غياب أى شريك فلسطينى يقبل أن يضع توقيعه على وثيقة الاستسلام النهائى لصالح أكثر التصورات الصهيونية تشددا دون أن يحصل على شىء، أى شىء، يحول دون تمرير ما أطلق عليه الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» «سلام القوة».
هناك حدود للقوة مهما بلغ عنفوانها فى استضعاف العرب.
باسم سلام القوة جاء اعتراف «ترامب» بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده إليها مخالفا للقانون الدولى وأية مرجعيات دولية.
بذات النهج اعترف «ترامب» بسيادة إسرائيل على الجولان السورى المحتل.
كأى لص لا يخشى العقاب أمضى «نتنياهو» عطلة عيد الفصح العبرى فى الجولان وبحيرة «طبرية».
بشىء من الانتشاء قال: «ما أجملك يا أرض إسرائيل!»
حسب موقع إسرائيلى فإن «ترامب» ليس ممن يعتقدون أن هناك عشاء مجانيا وأنه ينتظر الثمن، هذا صحيح لكنه لا يعنى الضغط على «نتنياهو» بقدر ما هو الرهان على ولاية ثانية بأصوات الموالين لإسرائيل فى الولايات المتحدة والحصول على جائزة «نوبل» للسلام شأن رؤساء أمريكيين سابقين!
الأغلبية الساحقة فى المجتمع الدولى ترفض التغول الأمريكى على المرجعيات الدولية ولا تراه مدخلا يساعد على أى نوع من السلام، الأوروبيون والروس والصينيون يتبنون ممانعة ما، لكن لا أحد فى الحصاد الأخير يدافع عن قضايا الآخرين بالنيابة.
استباحة القضية الفلسطينية ترجع إلى التدهور الفادح فى النظام الإقليمى العربى واستعداد أغلب مكوناته للمضى قدما فى التطبيع السياسى والاقتصادى والاستراتيجى والعسكرى مع إسرائيل دون أن يرتبط ذلك بانسحابها من الأراضى العربية المحتلة منذ عام (1967)، كما تقضى المبادرة العربية التى ماتت إكلينيكا.
بدرجة أخرى ترجع الاستباحة إلى الانقسام الفلسطينى الداخلى، الذى يزكى فكرة توظيفها لتمرير ما لا يمرر من مشروعات وخرائط.
صفقة القرن تعبير عن نوع من الاستثمار الاستراتيجى فى الأحوال العربية المتردية والفلسطينية المنقسمة.
هذه حقيقة لا يمكن إنكارها.
بغياب التوازن والقدرة على الردع بات كل شىء مستباحا.
وبالهرولة شبه الجماعية للتطبيع باتت الأثمان مجانية.
الفكرة الجوهرية فى صفقة القرن نزع الطابع الوطنى التحررى عن القضية الفلسطينية وإحالتها إلى محض قضية إنسانية تتكفل بعض المساعدات والمشروعات فى إنهائها خاصة فى قطاع غزة المحاصر بقسوة.
كلما ارتفعت نبرة الحديث عن مشروعات وتدفقات مالية تحسن مستويات حياة الفلسطينيين زادت بنفس الوقت مستويات إحكام الحصار عليهم إلى حدود التجويع المنهجى لإضعاف أية قدرة على الرفض.
وفق وثيقة مسربة نشرتها مجلة «فورين أفيرز» الأمريكية لـ«جاريد كوشنر» صهر الرئيس الأمريكى ومستشاره للشرق الأوسط، فهو يطلب إلغاء وكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا» لا مجرد تجميد المشاركة الأمريكية فى تمويلها.
بنفس الوقت يحاول «كوشنر» أن يسوق لصفقة القرن باعتبارها مشروعات إنسانية تخفف المعاناة عن الفلسطينيين.
الفكرة الجوهرية الثانية فصم العلاقات بين غزة والضفة الغربية، فلا دولة فلسطينية وفق حل الدولتين، حسب تصريح أخير لـ«جيسون جرنيبلات» المبعوث الأمريكى فى الشرق الأوسط والرجل الثانى بعد «كوشنر» فى إعداد الصيغة الأخيرة لصفقة القرن.
هناك احتمال آخر، حسب بعض التسريبات، لإعلان قيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح والسيادة ومحدودة الصلاحيات على نحو (40 ــ 60%) من أراضى الضفة الغربية.
النسب تتفاوت من تسريب إلى آخر، لكن ما لا تختلف عليه ضم الكتل الاستيطانية الرئيسية إلى إسرائيل حسبما تعهد «نتنياهو» أن يفعل فور تشكيل الحكومة.
الفكرة الجوهرية الثالثة، شطب حقوق اللاجئين وإحداث جراحات فوق الخرائط بمشروعات تبادل الأراضى.
غابت عن التسريبات الحديثة أية إشارات يعتد بها عن وطن بديل فى شمال سيناء باسم غزة الكبرى على ما صرح فى وقت سابق «ترامب».
هذا مستحيل تماما بالنظر إلى حجم الدماء التى بذلت فى مواجهات السلاح مع إسرائيل دفاعا عن مصرية سيناء.
التفكير نفسه هذيان استراتيجى لا يدرك أن سيناء جوهر الأمن القومى المصرى، فإذا ما نزعت عن الداخل انهار كل شىء وتهدد البلد فى وجوده، ولا يبقى حجرا فوق آخر.
التسريبات أعادت طرح البديل الأردنى بتوطين نحو مليون لاجئ فلسطينى مقابل ضخ (45) مليار دولار فى شرايين اقتصاده تدفع من فوائض النفط العربى وضم الناقورة والغمر الأردنيتين للدولة العبرية مقابل أراض سعودية.
كأن الثمن المطلوب أموال بلا عد وأراض يجرى التخلى عنها لتمرير مشروع السلام الأمريكى المقترح.
رغم الرفض الأردنى المعلن فإن آلة التسريبات لا تتوقف لاختبار مدى القدرة على الصمود قبل طرح الصفقة.
الفكرة الجوهرية الرابعة فى صفقة القرن وحولها نفى صفة العدو عن إسرائيل ودمغ إيران بها، كأنه حذف لإرث الصراع من الذاكرة دون استعادة أى حقوق للتصدى للعدو الافتراضى المشترك.
الاستهانة المفرطة ولدت قوة رفض أخذت تتصاعد بالوقت وأحرجت بعض مكونات النظام الإقليمى خشية تقويض شرعيته باتهامات التفريط.
موجة التسريبات مرشحة لإزاحة ستائر الكتمان عن كامل أسرار صفقة القرن وصدام الإرادات حولها سوف يرسم مصير الإقليم إلى سنوات طويلة مقبلة.
لسنا ضعفاء إلى هذا الحد وليسوا أقوياء إلى هذا الحد.
هذا ما يجب أن ندركه ونعمل بمقتضاه.