التغنّى بعظمة الشعب.. وازدراؤه
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
الأحد 24 مايو 2015 - 9:05 ص
بتوقيت القاهرة
التناقض بين الخطاب والسلوك مقبول فى حدود معقولة وهو من طبائع البشر. القول بأن السلوك يتفق تمام الاتفاق مع الخطاب فى كل الموضوعات وجميع الأوقات فيه ادعاء وهو لا يمكن إلا أن يكون خداعا للناس. ولكن التفاوت الصارخ بين الخطاب والسلوك هو أيضا خديعة تكشف عن نفاق الخطاب وتهافت السلوك.
الخطاب الذى يقول به كثير من المسئولين تتناثر فيه وتتكرر، بمناسبة وبدونها، الإشارة إلى «شعب مصر العظيم»، وهكذا يفعل كتاب وصحفيون عدّة. كيف يمكن الحكم على هذه العبارة؟ يمكن اتخاذ منظورين فى الحكم عليها. الأول هو أن من يمنح، يمكن أن يمنع، فأنت إن اعتبرت جماعة من البشر عظيمة أو كريمة، فإنه يصبح من حقك أن تنكر عليها هذه الصفة أو تلك وغيرهما. ويثير ذلك مسألة أخرى مرتبطة بالمنح والمنع، ألا وهى أن من يحكم بالعظمة أو الكرم على جماعة من البشر يضع نفسه، سواء عن وعى أو غير وعى، خارج هذه الجماعة، إن لم يكن فوقها. هل يعتبر المسئولون القائلون بخطاب «العظمة» أنهم خارج الجماعة المصرية أو فوقها ليحكموا عليها؟ المنظور الثانى يتعلق بالمغزى من وراء استخدام العبارة. المسئولون وغير المسئولين، فى كل مكان، ينتظر منهم خدمة شعوبهم والسهر على مصالحها بصرف النظر عما إذا كانت عظيمة أم لا، بل ربما كانت مسئوليتهم أكبر فى حالة إن لم يكن شعب ما «عظيما»! حديث «العظمة» لغو وخواء.
على أن المفارقة تصل إلى ذروة عندما تقارن بين خطاب «العظمة» المعمَم، من جانب، وبين الخطاب المخصص لتناول المشكلات التى يعانيها المصريون وسلوك المسئولين، أى سياساتهم، فى التصدى لها، من جانب آخر. هذا مسئول كبير يتصوّر أن «العظمة» مستويات لا يمكن قبول الانتقال إلى أعلى فيما بينها، ويخص بالذكر جامعى القمامة، وكأنه يتحدث من داخل نظام الطبقات المغلق فى الهند، وهو نظام تجهد الهند، أكبر ديمقراطيات العالم للانعتاق منه، وليس للانغلاق فيه وتكريس المزايا التى يتمتع بها المميزون. مصطلح الطبقة مستخدم هنا بالمفهوم الهندى التقليدى له وليس بمفهوم الموقع فى عملية الإنتاج الرأسمالية. رئيسا وزراء اثنتين من ولايات الهند، منهما أكبرها أوتار براديش التى يتعدّى سكانها المائتى مليون نسمة، من الطبقة التى مازالت تسمّى «بغير القابلين للّمس»، وهى طبقة جامعى القمامة.
•••
وذاك مسئول كبير آخر يعاند الاحصائيات والمسوح ويعلن عدم الاكتراث بها، بل يقرر أنها كاذبة ليخلص إلى أنه ليس فى مصر بطالة، وأن ثمة فيضا من فرص العمل، وأن المصريين المفترض فيهم «العظمة» لا يرغبون فى العمل، فثقافتهم لا تحتفل به، وهو ما يعنى أن هؤلاء «العظام» يريدون العيش عالة على غيرهم وعلى الدولة. غير أن هذا المسئول الكبير تحدث عن دخول بآلاف الجنيهات للعمال بل وللأطفال العاملين وهو ما يجعلك تتساءل عما يريد أن يذهب إليه المسئول: هل يعمل المصريون ويكسبون الآلاف أم أنهم لا يرغبون فى العمل ولا يعملون؟ الدخول التى يجنيها العمال حسب هذا المسئول تجعله قيد أنملة من التصريح بأنه لا يوجد فقر فى مصر، بعدما أعلن بكل ثقة عن عدم وجود بطالة فيها. التساؤل يثور بشأن الاتساق الفكرى لمن يقع فى مثل هذا التناقض بين حديث «العظمة» وحديث الازدراء بالمصريين وبسلوكهم، وبثقافتهم. والسؤال الأهم بما لا يقاس يتعلق بالسياسات التى يمكن أن تصاغ على أساس هذا التحليل البائس.
وعندما تجد مسئولا يصدِق الإشارات المتكررة إلى «عظمة» الشعب ويريد أن يكافئه على هذه العظمة ببناء مساكن له، تكتشف أن صنفا آخر من المسئولين يستكثر على الشعب قيمة الأرض التى ستشيّد عليها المساكن، ويحتفظ بها لمن يستطيع أن يدفع بدلا من أن يخصصها لمن يحتاجها.
انعدام أى منطق فى الاتصال بالناس والتعامل معهم هو أيضا استهانة بهم. فى خبر واحد، وفى سطور قليلة، أنكر واحد من المسئولين تسمم مياه الشرب فى قرية من قرى محافظة الشرقية، ثم أعلن عن وقوع ضحايا للتسمم فيها! المسئول لم يكلف نفسه مجرد عناء تدبيج رواية تنطلى على القارئ ولو لبضع دقائق وحتى يطرح الجريدة جانبا. والتوقيت الصيفى يلغى «بعد استطلاع آراء المواطنين». لا يعلم أحد من أجرى هذا الاستطلاع وكيف أجراه. وأليس من الواجب أن تعلم الدولة المواطنين بمزايا وعيوب التوقيت الصيفى قبل أن تستطلع آراءهم؟
ويتصاعد الأسف عندما تلاحظ أنه يبثّ بين المصريين أنهم من عجينة حالها غير قابل للإصلاح. يترسخ ما يبث هذا عندما لا يقابل الادعاء به بأى حجة فيها دحض له. المرور فوضى عارمة تبدد الوقت والجهد وتستهلك الموارد وتقتل الناس أفواجا؟ السبب هو أن المصريين يستحيل تنظيمهم؛ ثقافتهم هى تحدِى القواعد وتكسيرها. الادعاء بشكله هذا فيه إعفاء لمن يقول به من بذل الجهد لإصلاح تعامل المصريين مع بعضهم البعض فى الطريق العام، وهو استعلاء عليهم يتناقض تناقضا صارخا مع ما يقال ليل نهار عن«عظمتهم». الإمساك عن أى محاولة جادة لتنظيم السير فى الطرقات العامة ولحماية حياة المصريين هو تعبير ضمنى وبليغ عن ارتياح لدولة للادعاء المذكور. الثقافة والسلوك المتأتى عنها ليسا متغيرين ثابتين. الدولة ملزمة بمساعدة المواطنين على تقويم سلوكهم، ولا يكون ذلك بالقسر، فهو فاشل إن كان وحده، وإنما بالسياسات المركّبة والمبتكرة.
•••
ويبلغ التناقض منتهاه فيما تلاحظه من استغناء عن مشاركة الشعب «العظيم» فى حكم نفسه. غيبة البرلمان والتسويف فى انتخاباته، مرة لدواعى تنقية الجداول الانتخابية، وثانية بإعداد قانون انتخابى واضح للكافة عدم دستوريته، ومرة ثالثة لاعتبارات الصيام والصيف، هذه الغيبة هذا التسويف لا تشعر السلطة إزاءهما بأى حرج بل إنها تجد فيهما فرصة للإفراط فى حكم الشعب باعتباره مفعولا به، وليس فاعلا سيدا لمصيره. أكثر من 340 قانونا صدرت بمراسيم فى غيبة البرلمان فى أقل من سنتين، أى بمعدل قانون واحد كل يومين وهو متوسط مذهل فى أى بلد فى الظروف العادية نفسها، أى فى تلك التى يضطلع فيها برلمان منتخب بوظيفته التشريعية الأصيلة، وهى وظيفة لا يمارسها رأس السلطة التنفيذية إلا استثناء، وهى ممارسة اضطرارية وممقوتة، وعليه فإنها لا تكون إلا ممارسة بالقسط والتقتير.
تحسن الدولة إن كفّت عن نفاق الشعب بالتغنّى بعظمته. الشعب ما عاد يكترث بهذا النشيد.