«اليوم التالى» إقليميًا ودوليًا.. نظام أمنى بتوازنات جديدة!
طارق فريد زيدان
آخر تحديث:
الجمعة 24 مايو 2024 - 8:20 م
بتوقيت القاهرة
غزة، للشهر الثامن على التوالى، لن تُحقّق عسكريًا النتائج المرجوة إسرائيليًا (سحق حماس والإفراج عن الأسرى الإسرائيليين)، حتى لو استمرت شهورًا إضافية، بل ستُفضى حتمًا إلى المزيد من القتل والتدمير والتجويع، لكن ماذا بعد؟
صار التركيز مُنصبًا فى الآونة الأخيرة على «اليوم التالى» من وجهة نظر الأطراف المعنية، وبالتالى، ما يحدث الآن هو تفاوض بالنار لأجل فرض موازين قوى جديدة من شأنها أن تُنتج واقعًا جديدًا فى الشرق الأوسط، لكن حتمًا ليس على صورة «الشرق الأوسط الجديد»، الذى يتصوّره الآن بنيامين نتنياهو أو على صورة «الشرق الأوسط الجديد» الذى تخيّلته وزيرة خارجية أمريكا السابقة كوندوليسا رايس فى صيف عام 2006، غداة اندلاع «حرب لبنان الثانية».
فى الميزان الاستراتيجى، أن يكون الإسرائيلى عاجزًا عن تحقيق «الانتصار المنشود»، هذا تطور كبير، إلا إذا فاجأ نتنياهو الجميع وكسب المعركة على قاعدة إتيانه برأس محمد ضيف ويحيى السنوار أو اقتيادهما مخفورين. فى المقابل، أن يتمكن الأخيران من الإتيان برأس نتنياهو سياسيًا فيسقط، ويكون مصيره مثل جولدا مائير ومناحيم بيجن وإسحاق شامير وإيهود أولمرت فى أعقاب حروب خاضوها وخسروها أو ربحوها عسكريًا، لكنهم خسروا سياسيًا.
• • •
بطبيعة الحال، أفاض الميدان وأفضى بما عنده من وقائع ومعطيات عسكرية. أصبحت صورة النصر والهزيمة متعلقة بالمآلات التى ترسمها السياسة وليس السلاح. إذا فُرضت صورة هزيمة إسرائيل، فإن تداعيات ذلك على المنظومة الأمنية الإقليمية ستكون كبيرة جدًا ومتعددة الأبعاد.. هزيمة إسرائيل ستُولد ديناميكيات جديدة وقد تؤدى إلى إعادة تشكيل التحالفات الأمنية الإقليمية لا بل مجمل المنظومة الإقليمية، وهذا قد يكون لمصلحة العرب إن أحسنوا التقاط الفرصة، الأمر الذى من شأنه التأثير الإيجابى فى مجمل النفوذ الأمريكى والغربى فى الشرق الأوسط. ما عدا ذلك، أى إذا خسر العرب هذه الفرصة، حتما سيتلقفها اللاعبون الإقليميون، وأولهم إيران بوصفها أبرز قوة إقليمية معارضة للهيمنة الإسرائيلية والغربية، فضلًا عن سعيها المكشوف، فى الوقت نفسه، إلى تعزيز نفوذها الإقليمى.. كذلك، ستجد دول المنطقة نفسها عرضة لضغوط أمريكية وغربية من أجل تبنى موقف أكثر حزمًا من إيران وكل من يحاول كسر معادلات توازن القوى فى المنطقة والاستعداد لمواجهة أية اضطرابات إقليمية يُمكن أن تنشأ وتؤثر على الأمن والاستقرار فى الإقليم.
هذا السيناريو، إن حدث، يعنى أن حركة حماس قد كسبت جولة فى صراعها الطويل مع إسرائيل. صورة انتصار حماس الافتراضية من شأنها أن تُعزّز موقف الفصائل الفلسطينية الأخرى بما فى ذلك الجناح المقاوم فى حركة فتح وصولًا إلى تعديل موازين القوى فى منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسسات السلطة الفلسطينية. هذا الأمر سيؤدى إلى تصعيد مطالب الجانب الفلسطينى للحصول على دولة مستقلة حدودها الرابع من حزيران/يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، أى وفق الالتزام الذى تعهدت به حركة حماس لوسطاء غربيين، على مسافة أسابيع قليلة من اندلاع شرارة «طوفان الأقصى».
من نتائج ذلك أن الدول العربية التى طبعت علاقاتها مع إسرائيل ستواجه ضغوطا لإعادة تقييم هذه العلاقات أو «فرملتها» بالحد الأدنى. هذا السيناريو ستكون له تداعيات عميقة على مجمل منطقة الشرق الأوسط، لا سيما على الديناميكيات الجيوسياسية والأمنية والاقتصادية فيها. لعل أهمها هو إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للمنطقة برمتها.
وبالرغم من السيولة الاستراتيجية التى تعانى منها المنطقة منذ دخولها فى الفراغ مع غزو القوات الأمريكية للعراق فى العام 2003، فإن حرب غزة فرضت نفسها كأولوية على أجندة صانع القرار الدولى والإقليمى. ومن دون أدنى شك، ألقت حرب غزة بظلالها على السياسة الخارجية للعديد من الدول فى الشرق الأوسط لا سيما تلك التى تلعب دورًا محوريًا فى السياسات الإقليمية.. من خلال هذا السياق، يُمكن فهم تأثير مآلات نهاية حرب غزة على مُجمل السياسات الخارجية لدول المنطقة.
• • •
إن البحث عن «اليوم التالى» هو الشغل الشاغل لصانعى القرار على الصعيد الدولى. لم يعد بمقدورهم إدارة الظهر لهذه القضية المتفجرة. صارت أجيال بأكملها متشربة للقضية، وسيأتى دورها فى صياغة سياسة منخرطة لدولها بعيدًا عن سياسة الإهمال لهذه القضية، كما جرى منذ العام 2003. بناءً على مواقف الدول العظمى، مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين فى التعامل مع تداعيات حرب غزة، علينا أن نترقب ما قد يحصل من تغييرات فى السياسات الأمنية والعسكرية للعديد من دول المنطقة لا سيما طريقة تعاملها مع حركات ومجموعات فاعلة من غير الدول (حزب الله وحماس وأنصار الله). إن الديناميكيات داخل هذه الجماعات نفسها وبينها وبين دول المنطقة قد تتغير بناءً على نتائج الحرب.
حرب غزة لم تؤثر فقط على العلاقات الثنائية بين الدول، بل أيضًا على السياسات الاستراتيجية طويلة الأمد. ستواجه هذه الدول تحديات جديدة معقدة ومتداخلة فى الوقت ذاته. منها التعارض بين الحفاظ على الأمن الداخلى ومواجهة التطرف، وهما تحديان من أبرز إفرازات نهاية الحرب.
مجددًا، يمكن القول إن هذه الحرب قد تفتح الباب لفرص جديدة محتملة فى السياسة والاقتصاد والأمن. انتهاء الحرب قد يُحفز دول المنطقة على إجراء إصلاحات هيكلية سريعة فى سياساتها الإقليمية من خلال تعزيز الاعتماد على المنظومة الإقليمية. وعلى جارى العادة بعد انتهاء هذا النوع من الحروب، لا بد وأن تفرز ما يسمى بالدبلوماسية النشطة لدى دول المنطقة. من المرجح أن تشهد المنطقة تحولًا نحو دبلوماسية أكثر نشاطًا لتأمين مصالحها الاقتصادية والأمنية، مع التركيز على أولوية الاستقرار.
«اليوم التالى» يتطلب استجابة معقدة ومدروسة من جميع الأطراف المعنية لمعالجة التحديات واستغلال الفرص التى قد تنشأ. ما يهم هو مراقبة التفاعلات والتغييرات الآخذة بالتشكل. التريث مهم جدًا هنا.. بالرغم من أن حرب غزة قد تكون عاملًا محفزًا لبعض التغييرات، فإن تطور نظام سياسى جديد كامل يتطلب ظروفًا وتفاعلات معقدة بين مختلف اللاعبين والعوامل الإقليمية والدولية. منها نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية التى نحن على أبوابها. من هذا المنطلق علينا التريث والترقب لأن تطوير النظام السياسى يحدث بشكل تدريجى وليس فوريًا. هناك عدة سيناريوهات. كلها تعتمد على صورة طرفى النزاع فى غزة عند وقف إطلاق النار.. وتبادل الأسرى.
كاتب سعودى