مائة خطوة إلى التحرير

صبرى حافظ
صبرى حافظ

آخر تحديث: الجمعة 24 يونيو 2011 - 8:34 ص بتوقيت القاهرة

كتاب أحمد زغلول الشيطى (مائة خطوة من الثورة: يوميات ميدان التحرير) هو أول كتاب أقرأه عن ثورة 25 يناير، التى بدأت عدة كتب تصدر عنها باللغة الانجليزية أيضا، بالرغم أنه لم تنقض على أحداثها إلا عدة شهور. وهو كتاب لكاتب قرأت له قبل ربع قرن مخطوطة روايته الأولى (ورود سامة لصقر)، فكتبت عنها، مع أنه من النادر أن اكتب عن مخطوطة لم تنشر بعد.

واعتبرتها وقتها من الروايات التى تبشر بكتابة جديدة، سرعان ما تبلورت بعد ذلك فى أعمال ما عرف بكتاب التسعينيات. وإذا كان الشيطى بادر فى روايته الأولى بالتعبير عما دعوته بجماليات الأفق المسدود، فى الدراسات التى نشرتها بالعربية والانجليزية عن تحولات الرواية المصرية فى العقود الثلاثة الأخيرة، فإنه يبادر فى كتابه الجديد، عما جرى فى ميدان التحرير فى الأيام التى صنعت الثورة المصرية، بالكتابة عن الثورة التى فتحت الأفق الذى انسد أمام مصر، وأمام ثلاثة أجيال من شبابها، كان جيل الشيطى أولها. وكان بطل روايته الأولى «صقر» أول ضحايا انسداد الأفق الذى بدأ يحكم حصاره حول شباب مصر، فيقتل فيهم الأمل والحياة معا، أو يدفعهم مناخه الطارد لترك بلدهم كما حدث لرفيق بطل الرواية «يحيى».

وظلت آليات الواقع الشائه الذى أودى بـ«صقر» ودفع «يحيى» للمغادرة، تتفاقم بالفساد والهوان وفقدان الحكم للشرعية، وتحكم حصارها حول مصر، حتى لم يعد لدى أغلب الشعب المصرى ما يخسره غير قيوده، فخرج فى واحدة من أكبر الثورات وأكثرها نبلا وتحضرا على مر التاريخ.

فثمة خيط خفى، ولكنه وثيق، يربط بين كتاب الشيطى الأول وكتابة الأخير، هو خيط التجربة التى عاشها الجيل الذى دمرت سنوات الانفتاح حلمه الغض فى حياة كريمة، ثم أجهزت عقود مبارك الثلاثة الكئيبة على أى أمل له، ولجيلين كاملين بعده، فى أى حياة كريمة. هذا الجيل الأول يمثله فى الكتاب الجديد أحمد زغلول الشيطى نفسه، وقد وعى أن «الأفق مسدود بالتحالف ما بين رأس المال والسلطة، البلد سادتها الفجاجة والقسوة والنهب المنظم لثرواتها بالتجاور ما بين أقصى درجات الفقر وبيت الثراء الفاحش، بسيادة علاقات قائمة على الدعارة وعلى التعامل مع الرفض كجنون، بتحويل خريجى الجامعات إلى خدم للأثرياء الجهلاء. كنت صامتا ويائسا وهاربا إلى الفن، أغار من هؤلاء الشباب الذين كسروا حاجز الخوف المستحيل، أغار من قدرتهم على تصور عالم آخر، ومن قدرتهم على البدء فى تنفيذه، وهو ما لم يكن متاحا لى» (ص41).

ويمثله معه صديق عمره الدمياطى عادل الجنيدى، الذى جاء خصيصا من دمياط التى لا يحب مغادرتها، إلى التحرير لأنه كما يقول «كنت عايز أشوف وجوه العيال بتوع التحرير عن قرب، وبيختلفوا عننا فى إيه، قلت: وإيه الأخبار؟ قال: شفت الشباب اللى فى الميدان، دى عيال هفتانه جدا زى ما يكون ما أكلوش من شهرين، لكن فعلا اللى عملوه مذهل وغير متوقع» (ص149).

فالجيل الأول الذى ضربته متغيرات الزمن الردىء، وعاش عمره كله تحت وطأة القهر والهوان، يريد أن يرى نفسه فى مرآة هذا الجيل الأحدث الذى اجترح المعجزة. ويريد أيضا أن يشارك، كما شارك شعب مصر كله فى تلك المعجزة. بينما يتمثل الجيلان التاليان له فى الشباب الذى كما يقول عادل الجنيدى أيضا «تحرر من كل الأوهام» فصنع هذه الثورة، من أجل الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية: مطالب هذه الثورة الثلاثة.

ويمكن تلخيص الخيط الأساسى الذى يربط بين كتاب الشيطى الأول وكتابه الأخير فى تعبير الأفق المسدود. لأن انسداد الأفق الاجتماعى والسياسى كان هو السمة المميزة للواقع المصرى الذى عانى لعقود أربعة من التردى والتدهور والهوان. وكان هذا الهوان هو الذى جعل الكرامة تتصدر المطالب الثلاثة فى هتافات الثورة: كرامة مصر، وكرامة كل فرد فيها بعد أن زج النظام بأربعين مليون مصرى تحت خط الفقر، ودفع الاقتصاد إلى حضيض التبعية. فبعد أن كانت مصر فى نفس الموقع الاقتصادى مع تركيا عام 1965، أصبح الاقتصاد التركى رقم 16 فى العالم والمصرى رقم 80. وكبل مصر بالديون بعد تجريفها بالنهب والفساد، وشوه مدنها بأحزمة الفقر العشوائية القبيحة، وأتاح للأسرة الحاكمة والعصابة المحيطة بها صنوفا غير مسبوقة من الزراية بالقانون، والعصف بمكانة مصر ومصالحها، والسفه والثراء غير المشروع.

لذلك يمكن أيضا تلخيص الكتاب الجديد، فى أنه يسعى لكتابة يوميات فتح طاقة فى هذا الأفق المسدود، ورصد تفاصيل تكسير حاجز الخوف، وتبديل الخوف لمواقعه، لأنه عندما تحرر الشعب من الخوف، انتقل الخوف والتخبط ليعمر أروقة الحكم ودهاليز اللصوص.

ويبدأ الكتاب بدخول الأحداث إلى شقة الراوى، ومعها سحب الغاز المسيل للدموع، لأن هذه الشقة الواقعة فى شارع قصر النيل، لا تبعد كما يقول لنا إلا مائة خطوة عن ميدان التحرير، فى الزمن الذى برهنت فيه مصر على أنها هى الأخرى لا تبتعد أكثر من مائة خطوة عن التحرر. لذلك كنت أود لو حافظ الشيطى على هذا الأمر فى العنوان وقد علمته الثورة كما يقول منذ يومها الأول بلاغتها الجديدة، وأن يكون عنوان كتابة «مائة خطوة إلى التحرير» فهذا العنوان هو الأوفق من حيث قدرته على توصيل رسالة الكتاب التوثيقية والاستعارية معا. لأنه سيفتح الكتاب على أكثر من تأويل، وعلى أن ما وصفه هو بعض الخطوات التى انجزت على درب طويل إلى التحرير، ليس التحرير الميدان، وإنما التحرير الحقيقى والمبتغى بتحقيق الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية.

والواقع أن دخول الاحداث إلى الشقة استدعى، بل حتم، خروج ساكن هذه الشقة إلى العالم، إلى التحرير، وهو ما يقدمه لنا الكتاب الذى يراوح مكانيا بين الشقة والتحرير. كما أن الخروج الأول مع حمدى أبوجليل الذى كان أفصح تعبيرا عن مخاوفه: «أنا ماشى معاك علشان أنت محامى» إلى «أنا مروّح!» (ص29) سرعان ما أدى إلى نكوص إلى الشقة من جديد، نتيجه لخوفهما معا من التعرض للأذى والمهانة. يقول الراوى «شعرتُ أن هذه أول مرة يخرج فيها حمدى لمظاهرة، وكنت مثله تقريبا، وكان ما يحدث غريبا وغير معروف إلى ما سينتهى. كان حمدى إلى هذه اللحظة متشككا وكنت أنا أشعر بالهول، فقد عشتُ طويلا إلى جوار قسم الشرطة فى دمياط ورأيت الآلهة التى تحترف التعذيب لأغراض مقدسة، تحيطهم القداسة والمهابة، ولا يمكن تخيل هذا الاجتراء الحاد عليهم. لقد سمعت الشتائم تنهال على السيد الرئيس والسيدة حرمه فى شارع طلعت حرب فى اليوم الأول، دون أن تفيض أرواح من نطقوا بالشتائم» (ص29) وعندما بدأ انسفاح دم من نطقوا بالشتائم تبدد الخوف كلية. وتحول الميدان إلى قلب مصر الكبير الذى ينبض، ويؤكد للعالم كله أن مصر لا تزال حيّة، ولا تزال نبيلة ومتحضرة ومتألقة.

ويوشك الكتاب أن يكون تسجيلا، لا ليوميات تحرر كاتبه من الخوف، وتحرر جيله كله منه معه فحسب، ولكن أيضا لتلك الخطوات الأولى الجبارة التى قطعتها مصر نحو الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وأطاحت فيها بأحد أبشع الأنظمة الاستبدادية فى العالم، برغم أنه كان مدججا بأكثر من مليون وربع من شرطة القمع والأمن المركزى. ولا مجال هنا، فى هذه المراجعة القصيرة، للحديث عن كل ما ينطوى عليه الكتاب من تسجيل لهتافات الثورة، وتحليلها.

لكن وقفة مع بعض اللافتات التهكمية والمواقف تكشف عن حكمة الثورة الشعبية وحدوسها الخلاقة: من «سامحنى يا رب كنت خايف وساكت على الظلم طول تلاتين سنة» (ص 41)، إلى «ارحل بقى عشان أمنية ومها يعيشوا بكرامة» (ص77)، إلى «حسنى مبارك مش هيغور إحنا قاعدين تسع شهور» (ص36)، إلى اللافتة المكتوب عليها «منك لله خليتنا نحب بعض» ص117)، إلى ما قاله له الشاب القادم من كفر الشيخ والذى عاش فى الميدان منذ جمعة الغضب: «هنا بلاقى نفسى، وبلاقى ناس وتعاملات عمرى ما شفتها» (ص107)، أو موقف الفتاة التى تعمل الشاى للمتظاهرين وقولها له: «أنا بضحك على الناس اللى سابوها لغاية ما خربت، وجابين دلوقت يدوروا على حقهم» (ص107). فنحن هنا بإزاء كاتب قادر على التقاط الكثير من المواقف الدالة على ما جرى والكاشفة عن دوافعه ومآلاته فى آن.

لكن أكثر المفارقات التى رصدها دلالة هو تصويره لمسيرة المثقفين التى انطلقت من المجلس الأعلى للثقافة، واحتاجت فى حقيقة الأمر إلى أحد شباب الثورة ليقودها، فقد برهنت الثورة كم أن المثقفين الذين دجنهم فاروق حسنى وكلاب حراسته ذربو الألسنة، قد أصبحوا، من طول مكثهم فى الحظيرة، غير قادرين حتى على قيادة مسيرتهم. كما أن حواره مع منصورة عزالدين فى الميدان لا يقل أيضا دلالة على هذا المأزق، «أبدت اندهاشها وهى تقول «قابلت خالى وابن خالى هنا»، ثم أضافت مندهشة: «وسط الملايين دى كلها»، قلت: «إيه رأيك فى الثورة اللى بتوصل لأهالينا أسرع من وصول كتبنا إليهم؟» (ص163) أو قوله لها «إن هذه الحركة قد حولت أجزاء كبيرة من أدبنا إلى أدب غير قابل للقراءة» (ص126) ولكننى أقول وربما حولت الجزء الآخر إلى أدب يحتاج إعادة قراءة، كما يحتاجها كل شىء فى مصر بعد خطوات التحرير الأولى تلك، كى تكتمل المسيرة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved