«القاهرة فى ألف عام».. قصة استعراض قديم
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
الجمعة 24 يونيو 2016 - 8:35 م
بتوقيت القاهرة
تعودت منذ فترة طويلة أن أقوم بسياحات غير منظمة فى بحر اليوتيوب الزاخر بين أفلام وتسجيلات قديمة، برامج حوارية ومسرحيات، مواد سمعية وبصرية قيمتها عندى لا تقدر بمال، وأثناء هذه الجولات الممتعة أعثر على مواد أقل ما توصف به أنها كنوز حقيقية. قبل عام تقريبا، وفى جولة من هذه الجولات، عثرت على تسجيل فيديو بعنوان (القاهرة فى ألف عام)، مسرحية غنائية مصورة، كتب كلمات الأغانى والأشعار لها أمير العامية المصرية صلاح جاهين.
تذكرت أننى قرأت ضمن الأعمال الكاملة لجاهين، المجلد الخامس، الصادر عن الهيئة العامة للكتاب، أشعار وأغانى هذه المسرحية الضخمة، التى كانت تعد آنذاك عملا ملحميا كبيرا، كتبها جاهين فى توقيت صعب يقول عنه ابنه الشاعر القدير بهاء جاهين فى تقديمه لهذا الجزء من أعمال والده الكاملة «تزامن الاحتفال بمرور ألف عام على إنشاء القاهرة (969ــ1969) مع مرحلة من أمجد مراحل مصر وأكثرها حزنا فى نفس الوقت، وهى سنوات حرب الاستنزاف».
كانت المرة الأولى التى أشاهد فيها هذه المسرحية الاستعراضية المبهرة، الجميلة، شاهدتها كاملة رغم طولها (مدتها نحو ثلاث ساعات). استعراض «القاهرة فى ألف عام»، أنتجته وزارة الثقافة المصرية، من خلال الفرقة الاستعراضية الغنائية، تم تسجيله بالأبيض والأسود، واشترك فى بطولته نجوم ونجمات وأسماء لامعة فى تاريخ التمثيل، وقام بتأليفه عبدالرحمن شوقى، وكتب لها الأغانى والأشعار صلاح جاهين، وقام بتلحين الأغانى والاستعراضات سيد مكاوى وإبراهيم رجب ومحمود الشريف وآخرون.
أما الذين قاموا بأدوار البطولة، تمثيلا وغناء، رقصا واستعراضا، فكانت مفاجأة مذهلة إذ وجدت أمامى أحمد زكى، وسعيد صالح ويونس شلبى وصفاء أبو السعود، سعيد أبو بكر، محيى الدين إسماعيل، وعشرات غيرهم.. آخر ما كان يتصور خيالى أن يجمع عمل فنى بين كل هذه الأسماء، وأن يؤدوا جميعا أدوارا مهمة فى هذه المسرحية الفريدة التى ألهبت المشاعر وحفزت النفوس وأسالت دموع الجمهور غيرة وحماسا للكرامة الوطنية الجريحة.
لفت نظرى، مثلا، المشهد الذى يدخل فيه صلاح الدين (قام بدوره الفنان كنعان وصفى) خشبة المسرح ممتطيا صهوة جواده (ربما كانت المرة الأولى التى يظهر فيها فرس حقيقى على خشبة المسرح) لاحظت رد فعل الجمهور، وحالة الانفعال الشديدة والتصفيق الحار الجارف الذى صاحب ظهور البطل التاريخى، بكل التوق والحرمان للبطل المخلص.
جاءت هذه المسرحية، كما يقول بهاء جاهين فى تقديمه لها، كمظاهرة وطنية عاطفية تحكى تاريخ القاهرة من وجهة نظر الشعب المصرى، كما وأنها كانت أضخم احتشاد فنى ربما فى تاريخ المسرح.
لا بد هنا من إشارة للسياق التاريخى والسياسى (والثقافى أيضا) الذى عرضت فيه هذه المسرحية الضخمة. العام 1969، هو العام الذى تمر فيه 1000 عام كاملة على تأسيس القاهرة، مناسبة لا تتكرر إلا كل ألف عام! وجاءت المناسبة فى ظرف قومى ووطنى محبط، ما زالت مصر فيه تعانى من آثار الهزيمة المروعة فى 5 يونيو 67، ثم الحرب المجيدة التى خاضتها قواتنا المسلحة فى حرب الاستنزاف. كل هذا ربما كان دافعا إلى احتشاد أجهزة الدولة ومؤسساتها للاحتفال بهذه المناسبة، وكان على رأس وزارة الثقافة المصرية أعظم من تولوا هذا المنصب منذ إنشائها، الدكتور ثروت عكاشة، فعقدت المؤتمرات وطبعت الكتب والمجلدات ونظمت الندوات على شرف قاهرة المعز، وقدمت دراسات من أهم وأعمق ما كتب عن المدينة الألفية (جمعت أبحاث هذه الندوة فى مجلدين بعنوان «أبحاث الندوة الدولية لتاريخ القاهرة مارس ــ أبريل 1969»).
ورغم كآبة الظرف السياسى وحالة الإحباط العام التى كانت تسيطر على المصريين آنذاك، إلا أن كبار المبدعين والفنانين والكتاب والمثقفين عموما تباروا فى إنتاج أعمال رائعة، نقرأها الآن ونستمتع بها ونتأمل تفاصيل وغزارة مادتها وعمق رؤيتها فنفاجأ أننا أمام أعمال من عيار ثقيل، إبداع «فش غِل» إذا جاز التعبير..
ترجم يحيى حقى كتاب ديزموند ستيوارت «القاهرة»، وكتب له الجغرافى العظيم جمال حمدان مقدمة طويلة بعنوان «القاهرة الكبرى دراسة فى جغرافية المدن» (ستكون نواة لدراسته الضخمة عن القاهرة فى ما بعد)، وكتب صلاح جاهين أشعار المسرحية الاستعراضية الضخمة «القاهرة فى ألف عام»، ومن قبله سيكتب فؤاد حداد «من نور الخيال وصنع الأجيال فى تاريخ القاهرة»، التى كتبها الشاعر العظيم ردا على النكسة، ولم يكتبها فى السياق الاحتفالى الخاص بمرور ألف عام على تأسيس مدينة القاهرة، وتحولت هذه الملحمة الشعرية الغنائية إلى برنامج إذاعى أخرجه فتح الله الصفتى، ولحنه سيد مكاوى، وكان يذاع من خلال إذاعة البرنامج العام (هنا القاهرة) فى ذلك الوقت.
ويعكف جمال حمدان على تطوير موسوعته الضخمة «شخصية مصر» بعد أن أصدر مسودتها الأولى فى بحث صغير (لعل ذلك كان من أبرز إيجابيات ما بعد الهزيمة)، فى ذلك الكتاب المرجعى المهم «شخصية مصر» حاول الجغرافى المصرى العظيم ــ من خلال حقائق علمية ــ أن يعيد للشخصية المصرية ثقتها، وشعورها بالذات، وأن يبرهن علميا وتاريخيا على أن الهزيمة فى حياة الشعب المصرى قد تمثل عارضا، لكنها لا تتسم بالديمومة ولا البقاء. وتكتب نعمات أحمد فؤاد كتابها بنفس العنوان «شخصية مصر»، وتتوالى الكتب والمؤلفات التى سعت بوعى أو بدون وعى إلى إعلان رفض الهزيمة أولا على كل المستويات، ومقاومتها بكل السبل المتاحة ثانيا، والتغلب على آثارها السيئة ثالثا.
فى ذلك السياق أيضا، وللتأكيد على الهوية الوطنية، وتعبئة المصريين للتحدى، والمقاومة، ركز كتاب وصحفيون على عرض العديد من الكتب التى تناقش قضايا الوطن وتنعش الذاكرة وتستدعى التاريخ، مثل كتب جمال حمدان، وكتاب «مصر ورسالتها» لحسين مؤنس، و«سندباد مصرى ــ جولات فى رحاب التاريخ» لحسين فوزى، و«فى أصول المسألة المصرية» لصبحى وحيدة، وغيرهم.
كانت فترة الستينيات من أهم وأصعب فترات مصر سياسيا، وثقافيا على وجه الخصوص، هى الفترة التى قال عنها جمال حمدان فى مقال له نشره بمجلة آخر ساعة (20 أغسطس سنة 1969): «الستينيات كانت أكثر الفترات ازدهارا للثقافة. هذه حقيقة لا مفر منها، والسبب: السياسة أولا وأخيرا. والثقافة ألصق ما تكون بالسياسة. والستينيات كانت قمة الثقافة، والسبعينيات قاعها».
ويبدو أن الهزيمة قد استدعت الملكات الدفينة لدى الكتاب والفنانين فى محاولة لتجاوز جلد الذات واستعادة التوازن المفقود ومداواة الكرامة الجريحة بالتأمل فى تاريخ هذا الشعب واستعادة أمجاده وبطولاته.
طبعا أنا والجيل الذى أنتمى إليه (مواليد أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات) لم نعش هذه الفترة، قرأنا عنها فى الكتب، وتبدو السنوات الثلاث (1967ــ1970) تمثل حالة خاصة واستنثائية فى المشهد الثقافى المصرى بصورة لم تتكرر وظلت تأثيراتها ممتدة لعقود طويلة (ربما حتى الآن!)، مما يجعلنى أتساءل: هل من دراسة سجلت هذا الجانب الإبداعى خلال هذه الفترة وعالجته بالتأريخ والتحليل؟!
رابط المسرحية الاستعراضية «القاهرة فى ألف عام» على يوتيوب:
اضغط هنا